علي حسين
في فرنسا، بلد العجائب والغرائب، ظهرت خلال العام الماضي حركة احتجاج أطلقت على نفسها اسم "السترات الصفراء"، قام بها في بادئ الأمر عدد كبير من سواق سيارات الأجرة للتنديد بارتفاع أسعار الوقود،
وقد انضم اليها فيما بعد العمال والطلبة وكل الذين وجدوا في قوانين الدولة وقراراتها تحيزا للأغنياء، وكتب المتظاهرون منشورات على صفحات الفيسبوك وفي الصحف منحوا من خلالها درجة صفر لمعظم وزراء فرنسا، فيما طالبوا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن يقدم استقالته.
وكنت وانا اتابع حركة السترات الصفراء أسأل نفسي أين نحن مما يجري في بلدان العالم؟.. وهل سيظل هذا الشعب صامتا؟، يستمع لخطب صبيان السياسة وينتظر ظهيرة كل جمعة ماذا سيقولون له .. ويعتقد أن الخلاص في وظيفة شرطي يدفع من أجلها آلاف الدولارات.. أين هم شبابنا وطلبتنا؟، أين دورهم"، لماذا لم يساهموا في إشعال الغضب ضد الفساد والمحاصصة الطائفية والخراب الذي عشّشَ في المؤسسات التربوية؟ ، ولم أكن ادري أن بشائر تشرين المباركة ستهل علينا ليثبت شباب العراق أنهم الأقدر على صنع مستقبل البلاد، وليعيدوا اكتشاف روحية هذا الشعب ونقاء سريرته.
ولعل قيمة هذه الاحتجاجات أنها أثبتت أننا شعب لم يُفسد برغم سياسات الإفساد والانتهازية وخطب الطائفية اللعينة ومنهاج المحاصصة الذي مورس عليه طوال 16 عاما .هذا الشعب لم يفسد ولم يقبل أن يكون طائفيا رغم أنهم لقنوه تعليما فاسدا، وأصروا على أن يفسدوا قيمه الثقافية.. وحاولوا أن يطعموه غذاء طائفيا فاسدا، منتهي الصلاحية..
وأنت تشاهد صور ساحة التحرير والحبوبي واحتجاجات البصرة والديوانية والنجف وميسان والسماوة وبابل وذي قار تدهشك هذه الاستعادة السريعة لأجمل ما في الشخصية العراقية وأعني به حاستها الوطنية، في لحظة تصور فيها زعاطيط السياسة أنهم قتلوا جوهر هذا الشعب ووجدانه، وأحرقوا مساحات الوطنية فيه.
فى قلب عتمة وثائق الشرف وخطابات منتصف الليل، وألاعيب الانتهازيين لشيطنة الاحتجاجات.. ووسط غبار من المؤتمرات التي لا تصلح للاستخدام البشري، وفي ظل مخطط شديد الانحطاط للقضاء على المتظاهرين، يأتي شباب عراقيون ناصعو الضمير، يتحدثون فتصدقهم الناس، فتنبعث الانتفاضة من سكونها على نحو أوسع وأجمل وأكثر إصرارا على انتزاع الحق، وملامسة المستحيل، والاصرار على تحقيق الحلم ، بالكنس الشامل لكل انتهازيي السلطة.
إنها الانتفاضة المقدسة التي اختطف شعلتها شباب بعمر الزهور كان الشهيد صفاء السراي قد أصبح أيقونتها، هذه الشعلة المقدسة التي تلقفتها الجماهير فتدفقت ا في ساحات الوطن بعد أن تصور حيتان الخراب أنهم استطاعوا أن يحاصروا روح الاحتجاج والرفض في نفوس العراقيين، ليقدم لنا صفاء ورفاقه الدرس البليغ بالدفاع عن الحق والتمسك به والاستشهاد من أجله.