د.قاسم حسين صالح
ها نحن نلتقي للمرة الثامنة في احتفالية يوم المثقف العراقي في سنته الثامنة بمدينة أربيل..اربائيلو مدينة الآلهة الاربعة التي يمتد عمر الثقافة فيها خمسة الاف سنة قبل الميلاد، وعلى قاعة أحبتنا المندائيين.
بدءاً،لنصحح فكرتين:الأولى،إننا حين نقول مثقفاً فان الذهن ينصرف الى أنه أديب، شاعر، فنان،أو إعلامي..وهذا ليس صحيحاً،فالطبيب مثقف ورجل الدين مثقف وكل من يعمل في مجالات المعرفة،من العلوم التكنولوجية الى العلوم الإنسانية..هم مثقفون.
والثانية، يرى كثيرون إن الثقافة نوع من الترف،مع إنها هي التي تحدد أهدافنا وتتحكم بسلوكنا.فاختلاف سلوك إحدنا عن الآخر يعود الى الثقافة،بل إنها هي السبب في أن تجد جماعة تنشر المحبة والسلام وأخرى دعاة حروب.وفي العراق كانت الثقافة أحد أهم أسباب العنف،آخرها وأعنفها ما جرى بين عامي (2006-2008) الذي اصطلح على تسميته حرباً طائفية أو أهلية فيما المفهوم العلمي إنها كانت حرب معتقدات..والمعتقدات أفكار..والأفكار ثقافة. ولأننا نختلف في ثقافتنا،ولأنها تكون السبب فيما ذكرنا، فلهذا ضمنت الأمم المتحدة في إعلانها الخاص بحقوق الانسان الصادر عام( 1984) الحق لكل شخص في أن يسهم بحرية في الحياة الثقافية ويستفيد من العلوم ويستمتع بالفنون،ويحترم ثقافة الآخر.
تلك مقدمة الهدف منها أن نحمل فهماً مشتركاً بخصوص الثقافة..لننتقل الى ما هو أهم..حال المثقف في العراق ونحن نحتفي به ونحتفل بيومه.
أيها الاحبة
منذ العام 2003 واجه المثقفون العراقيون ثقافة دينية طائفية عشائرية مدججة بالسلاح والمال فتوزعوا بين من غادر الوطن،ومن إنساق وراء مغريات السلطة،وبين من وجد أن ثقافة المّلا والعرّاف والدجل والجهل قد شاعت واعتبرت المثقف الحقيقي كافراً أو زنديقاً فاعتكف، وبين قلّة ظلت ماسكة بالقلم بشجاعة محارب.
وكنت تابعت حال الثقافة والمثقفين فوجدت أن أغلبها تشيع الإحباط ،ففي استطلاع أجريناه في العام 2017 وصف المثقفون العراقيين بأنهم:( شعب سلبي رافض لكل فعل باتجاه خلاصه،تغيير الحال بالعراق..حلم إبليس بالجنة، ماذا تسمي شعباً يعيد انتخاب من أفرغ ميزانية الدولة وصرفها على أسرته وأقربائه،واشترى الفلل في عواصم الدنيا وترك شعبه جائعاً؟،وإذا تقول لمثقفين هرولوا الى من فشل في إدارة الحكم وباع ثلث العراق ليجمّلوا صورته فيعود حاكماً من جديد؟)
وفي العام 2018عاش العراقيون أهم حدث هو الانتخابات فاجرينا استطلاعاً أيضاً شمل مثقفين توزعوا على ثلاثة اصناف:الأول يائس تماماً بقولهم:(التاريخ القريب والبعيد يؤكد..نفس الطاس ونفس الحمام)،وإن (الشعب مغيب وعيه،مخدّر،مسّير،مغفّل،جاهل).والثاني قال إن قانون الانتخابات (فصلته الأحزاب الدينية على مقاساتها)،وأن القوائم الجديدة والمرشحين النزيهين عليها أن(تمسح أيديها بالحايط)،والثالث كان على يقين بأن نسبة التغيير سوف لا تتعدى الـ(%1)
وحصل ما فاجأ المثقفين بما لا يخطر على بال أذكاهم، يوم شهد العراق في الفاتح من تشرين الأول/اكتوبر 2019 تظاهرات لخمسة أيام هزّت محافظات الوسط والجنوب،تبعتها في الخامس والعشرين تظاهرات أضخم اضطرت الحكومة الى استخدام العنف المفرط بما فيه الرصاص الحي والمطاطي والغاز القاتل..تصاعدت في جمعتي الفاتح من تشرين الثاني /نوفمبر والثامن منه الى حرب جسور وشوارع في بغداد،..ووصلت في خميس الدم (أمس 28 تشرين ثاني2019) الى استشهاد(32) شاباً في الناصرية فقط..في مشاهد وكأن الذي يجري هو حرب ضد غزاة وليس تظاهرات قام بها شباب دفعهم الفقر والحرمان والشعور بالاغتراب وعدم وجود معنى من حياة استلبتها منهم أحزاب استفردت بالسلطة والثروة لستة عشر عاماً،فانفجروا كما البركان رافعين شعار (نازل آخذ حقي) و (نريد وطن).
ولقد عايشت تظاهرات ساحة التحرير خمس ليال،والتقيت بمثقفين،لحضراتكم شهادتين عن دور المثقف في عملية التغيير:
(المؤسف والمستغرب في ثورة تشرين العظيمة غياب المثقف العراقي في ساحات الاحتجاج باستثناءالقليل منهم فيما المفروض أن يكونوا في طليعة الصفوف من أجل رفع معنويات وعزيمة الشباب الشجعان ،الا انهم مع الأسف فضلوا الجلوس في المقاهي لشرب القهوة والكبشينو وتبادل النكات وكتابة الرسائل الغرامية..ويضيف: اكتشفنا في ثورة تشرين أن ابو التكتك أكثر نبلا وشجاعة وشهرة منهم.الناشط صبري العقيلي).
ويقول الكاتب والصحافي توفيق التميمي:
(انا بعمري الذي تجاوز خمسة عقود من القهر والكبت والاحباط أحضر لهذه التظاهرات بشكل يومي ليس بصفة مشارك بل بصفة تلميذ في مدرسة هؤلاء الشباب الثوار اتعلم معهم كيف يواجهون الرصاص ليصنعوا أملاً لليائسين أمثالي).
وقال ثالث ساخراً من خيمة جواد سليم:(آني ما كاتلني غير هالدستور..الغوه وخلصونه منه..والأحسن نستورد دستور من سويسرا ونخلص..وأضاف:وعيونك دكتور ما راح يصير أي حل).
ولكن الحل صنعته ثقافة جيل من شباب قدموا المئات من الشهداء والآف المصابين،وخطّأت حتى نظريات في علم النفس تقول:اذا اصيب الانسان بالأحباط وحاول وحاول ولم ينجح،فأن تكرار حالات الخذلان والخيبات توصله الى العجز والاستسلام..واسقطوها في الخامس والعشرين بيوم جمعة (استعادة وطن)..متحدين الموت بصدور عارية وملاحم أسطورية.
وما يجري الآن هو صراع ثقافات أيضاً..بين عقل سياسي مأزوم،منغلق ،مسكون بالماضي يعتبر تحشيد الشباب بمسيرات لطم ونواح..انجازاً يتباهون به!،وبين عقل شبابي منفتح،متطلع الى المستقبل بثقافة تمنح الانسان الفرصة لأن يحقق ذاته ويبني وطناً,
والحل يصنعه أيضاً المثقفون من المفكرين وحكماء القوم.ومن هنا..وبأسمكم وبأسم المثقفين في العراق ندعو كل الأطراف الى حقن دماء العراقيين،ونجدد الدعوة الى أن نكون وسطاء بين السلطة وأصحاب القرار وبين المتظاهرين، منطلقين من حقيقة إن ما بعد واحد تشرين اكتوبر 2019 لن يكون امتداداً لست عشرة سنة من حكم أحزاب استفردت بالسلطة والثروة وافقرت الناس وأحالت الوطن خراباً..فلدينا مثقفون تبنوا قضية الجماهير وشاركوا في أول تظاهرات الاحتجاج ضد الفساد بساحة التحريرفي شباط 2011 ،بينهم من وضع كفنه على راحتي يديه وما تخلى عن قضية شعبه،ومن استشهد في ساحات التحرير،ومن جرى اختطافه، ومن اغتيل.
تحية لكل مثقف يعمل بفكره على توظيف الحاضر من أجل مستقبل أفضل وأجمل لوطن يمتلك كل المقومات لأن يعيش أهله برفاهية.
تحية إجلال وإكبار لشهداء العراق وشهداء انتفاضة تشرين.
تحية اعتزاز وتثمين لمن عمل وما يزال يعمل بحجم وزارة مع انه لا يمتلك مثقال ذرة من امكاناتها،مؤسس المؤتمر..الصورة البهية للمثقف العراقي الأديب الميساني محمد رشيد.
شكراً لحضوركم الكريم..شكرا للإعلاميين ولهم نقول إننا ندين أي إجراء يستهدف غلق مكاتب الفضائيات العراقية.
دمتم ودامت الثقافة بخير في وطن الحضارات وأرقى الثقافات وأول من نشر ثقافة الحب والسلام.
• كلمة افتتاح مؤتمر المثقف العراقي الثامن (29 تشرين الثاني 2019).