د. خالد السلطاني - معمار وأكاديمي
يدور الحديث في هذه الحلقة من <عمارات>، عن "الجناح الألماني في معرض برشلونة الدولي" الذي أًقيم في سنة 1929 بمدينة برشلونة في إسبانيا، والمعروف اختصاراً بـ "الجناح البرشلوني" أو "جناح برشلونة"؛
المصمم من قبل رائد عمارة الحداثة، وأحد أهم المعماريين العالميين في القرن العشرين وهو "لودفيك ميس فان ديرّ رو" (1886 – 1969) Ludwig Mies van der Rohe. وعمارة الجناح كما هو مبناه، يعتبران من الاحداث اللافتة وحتى ... "غير العادية" في منتج عمارة الحداثة وفي "سيرة" مبانيها. فعندما كُلـّف المعمار "ميس"، بإعداد مقترح "جناح ألمانيا" في معرض "برشلونة الدولي" (هو الذي نظم سنة 1927 بنجاح منقطع النظير "معرض الرابطة الألمانية للحرفيين (فيرك بوند)" Deutcher Werkbund بمدينة شتوتغارت Stuttgart)، كان المتوخى أن تكون عمارة الجناح عاكسة لمبادئ "جمهورية فايمر" الديمقراطية، وثقافتها التقدمية ومتضمنة توجهات المانيا لما بعد سنين الحرب العالمية الاولى وتقديمها كبلد مزدهر ومحب للسلام، أو كما قال مفوض "قوميسار" <الجناح الالماني> ".. يتعين أن تكون عمارة الجناح صوتاً لروح عصر جديد"، وهو ما سعى وراء انجازه "ميس فان ديرّ رو" بصورة ناصعة واستثنائية!
ما قام به "ميس"، أولاً، هو تغيير موقع الجناح، واختيار موقع جديد له بمحاذاة المحور الطولي لأرض المعرض الدولي. كما اقنع المسؤولين الألمان، بأن يكون الجناح "خلواً" تماماً من أي عرض أو معروضات. وبدلاً من ذلك ستكون "عمارة" الجناح، هي <المعروضة> الاساسية والوحيدة في الجناح. واعتماداً على تلك التوصية تم اختيار نوعية المقاربة التصميمية لعمارة الجناح (التي سنتحدث عنها بعد قليل). بوشر في تنفيذ مبنى الجناح في سنة 1928، وافتتح رسمياً في 27 أيار 1929؛ وظل قائماً لحين "تفكيكه" في مطلع سنة 1930، ونقلت عناصره الانشائية المفككة، لاحقاً، بعد غلق المعرض الى المانيا. وما عدا بعض الصور بالأسود والأبيض الملتقطة للجناح، لم يبق أي أثر يذكر له، كما لم يكتب عن عمارته، وقتها، أي من النقاد المهمين. وحتى عناصره المنقولة الى المانيا ضاعت و"اختفت" في خضم التحولات السياسية الكبرى، التي شهدتها المانيا في الثلاثينيات بصعود "النازي" الى دفة الحكم، والتي بسببها هاجر كثير من المثقفين الالمان من بلدهم الى بلدان آخرى، بضمنهم "ميس فان دير رو، الذي هاجر الى امريكا منتصف الثلاثينيات واستقر، كما هو معروف، في شيكاغو استاذاً للعمارة وعميداً في معهد الينوي التكنولوجي IIT.
بيد أن عمارة الجناح بدأت تثير، لاحقاً، قدراً من الاهتمام، وهذا الاهتمام المهني بتلك العمارة الحداثية بدا واضحاً على وجه الخصوص، منذ عام 1939، عندما ظهرت كتابات نقدية عديدة تسعى وراء تقييمات موضوعية لما انجزه "ميس": المعمار الحداثي و"العميد" الحالي، وقتها، للمعهد المعماري المعروف في شيكاغو، وخاصة تصميمه ذلك المبنى الرائع في برشلونة، المتواضع في المساحة والابعاد. (تقدر مساحته بحوالي 1000 متر مربع، وتقدر أبعاده في 55.6 متر طولاً، وبعرض يتراوح ما بين 17.8 في الجزء الوسطي، و23 متراً في الجهة الجنوبية، و13 متراً في الجهة الشمالية). لقد دعى حينها كثير من النقاد الى إعادة تقييم تلك العمارة المجترحة يوماً ما في 1929، وإعادة قراءتها لجهة تبيان خصوصية معالجاتها التكوينية، وتقييم مقاربتها التصميمية، هي التي عُدت إضافة لافتة في منجز"ميس" المعماري، ومنجز عمارة الحداثة بشكل عام! وفي السنين الاخيرة، بلغ الاهتمام بعمارة ذلك المبنى حداً بحيث أصدرت بلدية برشلونة في سنة 1981 قراراً "باعادة بناء" ذلك الجناح في ذات الموقع الذي كان فيه قائماً في عام 1929. وأوكلت تنفيذ القرار الى مجموعة معماريين إسبان، الذين ترجع لهم فكرة "إعادة البناء" وهم : "اغناسي دي سولا- موراليس" Ignaci de Sola – Morales، و"كرستيان سيريسي" Cristian Cirici، و"فرناندو راموس" Fernando Ramos. وأنهت تلك المجموعة المعمارية في عام 1983 إعداد مخططات "إعادة تصميم" الجناح، اعتماداً على صور الجناح الأصلي بالأبيض والأسود وعلى وثائق خاصة له محفوظة في متاحف عالمية. وبوشر بالتنفيذ في تلك السنة واكتمل بناء الجناح وافتتح سنة 1986، بالتوافق مع احتفالية "مئوية" <المعمار ميس فان دير رو> التى صادفت في ذلك العام. ومنذ ذلك الحين أمسى "موقع" الجناح، المكان الاثير لكثير من معماريي العالم الذين يزورون المدينة الاسبانية الشهيرة.وسكنة برشلونة وزوارها العديدين المهتمين بالعمارة والثقافة.
دعونا، الآن، إذاً، نلقي لمحة سريعة على عمارة الجناح في مسعى لتقييم مقاربته التصميمية.
ترجع لغة عمارة الجناح البرشلوني، كما تنتمي مقاربته التصميمية الى نوع من أسلوب معماري خاص، إجتهد "ميس فان دير رو" كثيراً في الاشتغال عليه، واستطاع أن يوظفه بكفاءة عالية في تصاميمه التي عمل عليها في العشرينيات، وقبل ظهور هذا الجناح. لا تسمح خصوصية هذه الحلقة، ولا المساحة المخصصة لها، الاسترسال كثيراً في الحديث عن تلك الرؤى المعمارية الجديدة وتبيان سماتها التي سعى "ميس" أن تكون موجودة في تكوينات تلك التصاميم. لكننا نستطيع القول إن بعض تلك الرؤى والمفاهيم مثلت أرضية خصبة لنشوء قيم ومدلولات نوعية العمارة المجترحة في الجناح البرشلوني.
تعتمد المعالجة التصميمية لمبنى الجناح على ركيزتين اساسيتين، ارتقى بهما المعمار عالياً لتكونا "مفتاح" الحل التكويني لمبناه، وهما المخطط الحر الانسيابي، والسقف "الطافي"! مرة كتبت عن هذا الجناح في كتابي "مئة عام من عمارة الحداثة" الصادر في 2009، مايلي ".. في هذا المبنى المتواضع وغير الضخم، يخلق لنا "ميس" منظومة تكوينية جديدة كلياً. فالجدران الخارجية لا تعمل على اغلاق المبنى باحكام، كما هو شائع، وإنما يظل الفضاء الداخلي ينساب ويدغم بحرية مع الخارج، فليس في المبنى ثمة احياز مغلقة، كما ليست هناك حدود واضحة بين الداخل والخارج". "يحرص المعمار في تعامله مع المنظومة التكوينية لمبنى الجناح على اختزال أدواته التصميمية. فيقتصر في معالجاته التكوينة على استخدام لوح التسقيف المستوى والمساند المعدنية اللماعة بالاضافة الى توظيف الالواح- القواطع المعمولة تارة، من الزجاج، وآخرى من الرخام المصقول، والتى لا يصل ارتفاعها الى مستوى لوح التسقيف. إن هذه الالواح/ القواطع هي التي تجزئ فراغات المبنى وتقسمه الى أحياز متعددة. كما إنها تقوم مقام الواجهات التي يمكن أن نسميها هكذا بصورة رمزية. في مبنى الجناح أُدخلت المسطحات المائية ذات الأشكال المحددة والمنتظمة وأمست جزءاً اساسياً من عناصر التكوين. وتم إثراء الفضاء الداخلي للجناح بقطعة نحتية لفتاة راقصة (دعاها الفنان بـ "الفجر")، وقد وضعت في وسط الحوض المائي الصغير (الشمالي)".
وعلى العموم فإن عمارة جناح برشلونة اعتبرت بحق تجسيداً مركزاً للقيم الجمالية الجديدة. فسطوح الالواح المستوية اللماعة ونقاط الربط الدقيقة الخالية من العيوب، وبهاء الجدران المصقولة ومفاجآت الاشكال الحداثية، كل ذلك يتناسب مع جمالية عصر الماكنة، عصر الحضارة المعاصرة. ومن المشكوك به كما يكتب أحد النقاد، أن نرى مثلاً مقنعاً ودامغاً للعزوف التام والعدول الكلي عن أي من التقاليد المعمارية السابقة، مثل ما قدمه لنا "ميس فان دير رو" في عمارة الجناح البرشلوني. وأخيراً فإن نهج الاختصار الصارم الذي يكتنف تكوينات الجناح يشير بدلالة واضحة الى أحد مبادئ المعمار الإبداعية الاساسية والتي عبر عنها "ميس" بجملة مفيدة وقصيرة أيضاً، وهي (القليل يعني الكثير!) Less is More، تلك الجملة المجنحة التى طبعت جميع نتاجات "ميس فان دير رو" اللاحقة بطابع خاص ومميز.
ما يلفت النظر في "جناح برشلونة" ليس فقط تلك العمارة الآسرة، والمتقدمة عن زمانها، والمجسدة لمقاربة معمارية، ستضحى، لاحقاً، من أهم وأشهر المقاربات التصميمية في العالم، وأعني بها <التيار الدولي> International Style، الذي استطاع أن يبهر بمبادئه وقيمه عدداً كبيراً من المعماريين في أرجاء عديدة من العالم، بغض النظر عن مرجعياتهم الاثنية ومصادر ثقافتهم المختلفة ما يلفت فيه هو "فكرة" <إعادة البناء> وتقديمها كفكرة قابلة للتنفيذ وملائمة للاحتذاء والاقتباس. إذ ابانت "تجربة <إعادة البناء>ـ التى انجزها المعماريون الاسبان في برشلونة، بإمكانية إثراء المشهد الحضري للمدن بعمارات سبق وأن صممت خصيصا لتك المدن، لكن تنفيذها صادف ظروفاً غير مواتية حالت، وقتها، دون تحقيقها على أرض الواقع. بمعنى آخر، ثمة "ممارسة" معمارية لافتة وجديرة بالاهتمام، والمهم قابلة للتحقيق، منحتها برشلونة للمدن الآخرى لجهة إثراء تنويعات مشهدها الحضري.
ولعل ما تمتلكه بغداد من ذاكرة معمارية زاخرة بتصاميم جد هامة، مشغولة من قبل معماريين عالميين يتمتعون بسمعة مهنية عالية، بيد أن تلك التصاميم لم تنفذ في حينها، ترى في نجاح التجربة "البرشلونية" ممارسة قابلة للاقتداء والمحاكاة. وأسعى شخصياً (مع زملاء معماريين) الى تحقيق التجربة البرشلونية، من خلال تنفيذ أحد أهم المشاريع المعمارية البغدادية والمصممة من قبل أهم المعماريين العالميين وأحد رواد عمارة الحداثة، وجعل تلك الواقعة، ترتقي لتتجاوز الشأن المعماري لتكون عملاَ "وطنياً" بامتياز يفتخر به العراقيون جميعاً، ويكون محط اعتزاز وزهو للبغداديين كمعلم حضري مميز في عاصمتهم. ونأمل أن تدرك الأوساط الرسمية مع منظمات المجتمع المدني قيمة وأهمية هذا الحراك، وتعمل على تبنيه ومساندته وبالتالي المساهمة في تحقيقه!
و"لودفيك ميس فان دير رو"، معمار المبنى، ولد في مدينة "آخن" بغربي المانيا عام 1886، يُعد أحد المعماريين الاكثر نفوذا في عمارة القرن العشرين، والمعروف في دوره المهم (مع آخرين) في تطور الفكر المعماري من خلال تكريس وتأسيس الحداثة المعمارية في المشهد. لم يدرس "ميس" العمارة في معاهد أكاديمية وانما تعلم المهنة لدى والده عامل الحجر وتاجره. عمل مع المعمار "بيتر برنس" قبل الحرب الأولى، في وقت كان يعمل مع ذلك المعمار الالماني الشهير اثنان سيعتبران من أشهر معماريي العالم، وهما "فالتر غروبيوس" و"شارل لوكوربوزيه". وفي عمر 27 افتتح لنفسه مكتباً خاصاً. رأس الباهوس، وأغلقه سنة 1933، بعد مضايقات كثيرة من "النازي" الحاكم بالمانيا وقتذاك. هاجر الى امريكا سنة 1937، وحصل على الجنسية الامريكية سنة 1944. صمم أهم مباني الحداثة في القرن العشرين، مثل "دارة فرانسويرث" (1951)، و"كراون هول" <القسم المعماري بمعهد الينوي التكنولوجي> (1956) في شيكاغو، ومبنى "سيغرام بيلدينغ" (1958) في نيويورك، و"الغاليري الوطني" (1968) برلين / المانيا.
توفي ودفن بشيكاغو في 17 آب 1969.