TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > الجابري مشروع بحجم دولة

الجابري مشروع بحجم دولة

نشر في: 7 مايو, 2010: 04:39 م

عباس بيضون توفى عن 75 عاماً المفكر المغربي محمد عابد الجابري. طار صيت الجابري في المشرق والمغرب العربيين، فقد استطاع الرجل العصامي، الذي نشأ في أسرة مدمرة وزاول في فتوته مهناً كالخياطة ودرس للشهادة الثانوية على نفسه، أن يؤثر بعمق.
  صار له في كل جامعة وبلد مريدون بقدر ما صار له من خصوم ومخالفين. كثرة هؤلاء وأولئك تشي بدوران النقاش حوله وبقوة حضوره وانتشاره. لا نبالغ إذا قلنا ان فكره ساد على حقبة كاملة وإن كلاً من مثقفي الثمانينيات كانت له حقبة جابرية، وان الرجل غدا منذ ذلك الحين أحد معلمي الفكر العربي وسلطة فكرية وثقافية راسخة. يرجع جزء من ذلك الى ان الجابري انبرى لتشييد مشروع فكري عربي متكامل أجاب ذلك الحين عن جملة الأسئلة المعلقة: أين نحن من الغرب، وما  هويتنا الفكرية، ومن أين نبدأ؟  أسئلة هي أيضاً عطش معرفي ووجداني وقلق جارف، ولم يكن في الحساب ان أحداً قادر على التصدي لها. كان للجابري من الجرأة والمجازفة ان بكّر الى اكتشاف هذه الحاجة المتأزمة وتلبيتها. حين كان الجابري ينقد العقل العربي كان يؤسـس هذا العقل ويشعر بوجوده، يجد حجر البداية ويضع الأساس. لا أعرف ما صلة مؤلَّف الجابري الذي بدأ في السـبعينيات بقلق ورعف ما بعد هزيمة الـ67، إلا ان الجابري، في عز المناظرة الخاسـرة مع الغـرب والشـعور المـر بالقصور والضياع الفكري والقطيعة المتمادية مع التـراث والقلق على الهوية والذات، بدا مشروعه منقذاً من الضلال وجواباً عن بحث رائد عن نقطة الابتداء التي وجدها في ابن رشد وابن خلدون وفي عقلانية عربية اعتبرها نظيراً للتنوير الغربي. لم يقطع الجابري مع الغرب ولم يستغرق الثمل بالهوية، لكنه وجد من بدون حرج صرحاً عقلانياً عربياً إزاء العقلانية الغربية التي ظلت مرجعه ومعياره. هذا الصرح العقلاني كان لا بد في نظره من إعادة بنائه، من رصه من جديد لبنة لبنة ومن موضعته وتحديده. ظلت النهضة الغربية مثالاً يستنهض مقابلاً عربياً لا يقل تكاملاً. لقد وجدنا هكذا الحجر الأساس الفلسفي والفكري وليس علينا إلا أن نبني عليه. مشروع الجابري الفكري كان تقريباً النظير الأيديولوجي للدولة القومية. لقد امتلك تقريباً تكاملها وأرضيتها التاريخية والمستقبلية، وهو بالتأكيد كان مصالحة كبرى بين الغرب والعرب وبين التراث والحاضر وبين الواقع والتاريخ. كان الجابري سيد مشروعه واستعمله في الحقيقة كسلطة غير محدودة. كان معلم فكر وبوصفه كذلك أخذ يحدد ويرسم ويقطع ويحسم بصرامة وجزم. كان لا بد من تطهير التراث ليغدو هذا الصرح العقلاني ولو أدى ذلك الى تجزئته وقطع أواصره وجذوره. هكذا قامت عملية فرز وتخليص داخلية. كان لا بد من عزل النواة العقلانية عن القشور التهويمية والصوفية والتخريفية. لا بد من تخليص القمح العقلاني من الزوان الاشراقي. وجد الجابري أن التفاعل الإغريقي العربي كان منارة هذه العقلانية فيما كانت الرواسب الفارسية واليهودية وسواهما هي منبت التخريف والشطح. في النهاية كانت هناك قسمتان: العقلانية وغير العقلانية، المغرب الغربي العقلاني والمشرق الإشراقي الصوفي. تجزئة مضعفة وبناء قائم على كثير من البتر والتجزئة. كان مشروع الجابري وعداً لكنه بدا لكثيرين قلعة غيلان. بعضهم وجدوا انه يجمد التراث في ناديه، بل يجمد الغرب نفسه في حقبة، انه جزّأ التراث واجتثه من جذوره. لم يجعله اثنين فحسب، بل قطع منه بعض منابعه الأخصب روحاً ومخيلة وشعرية. بعضهم لم يجد في هذه العقلانية نفسها سوى خيال عقيم.كل ذلك لم يؤخر الجابري عن أن يوطد مشروعه وأن يمارس في سبيله سياسات مثيرة للجدل. كان الجانب الأيديولوجي منه يظهر مع الزمن ويتأثر بالزمن. لم يكن الجابري وحده صاحب مشروع، والأرجح ان كثيرين وضعوا حجارة بداية أخرى، إلا ان الجابري كان أقلهم احتراساً وأكثرهم جموحاً للتكامل، ولو بقدر أكبر من الاجتثاث. تزايد مع الزمن خصوم الجابري وقل مريدوه، إلا أن غيابه قد يكون أيضاً غياب المشاريع الكبرى وبروز خطابات أكثر جزئية، بل غالباً بلا مشاريع. الأرجح أن مشروعاً بحجم دولة لا يبقى في غياب الدول. rnجريدة السفير اللبنانية  ايار 2010

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram