جمال العتابيمن المؤلم أن مرآة الذاكرة ، لا تحتفظ بالملامح الدقيقة للوجوه الغائبة ، أنها قد تمنح فقط الزوايا الأكثـر وضوحاً .. فلا أكاد أســترجع بدقة الكثيــر مــن الأشياء والأحداث .. إلا أن اللــقاء الأول بذلك الأســتاذ الوســيم الذي دخل علينا بشيء كثير من البساطة والعفوية ، لا أنساه مطلقا.تعود معرفتي بأستاذي الراحل الدكتور هادي الحمداني إلى عام 1964 منذ بدأت خطواتي الأولى في الدراسة الجامعية الأولية، شد انتباهنا نحن طلابه لأول وهلة دخل فيها قاعة الدرس ليلقي علينا محاضرة في الأدب العربي،
وكانت فرصة له في التعرف على أهتمامات الطلبة ، بأسئلة كان يطرحها علينا ، هادئة ، وديعة، غمرنا شعور من المحبة والألفة لم نعتدها في حياتنا الدراسية السابقة، لقد هجسنا منذ اللقاء الأول أن طاقة غير عادية تتفجر بين جوانحه، وأن مظهره الخارجي الذي يوحي بأهتمام بالغ يخفي ثراء واضحاً بموهبة متميزة ، من هنا لم يكن غريباً أن نألفه بسرعة .وبمرور الأيام نمت هذه العلاقة وأتسعت لتتحول فيما بعد إلى صداقات مع أولئك الطلبة الذين أظهروا شيئاً من الميل والأهتمام بفنون الأدب سيما الشعر منه، وكنت حينذاك من الطلبة الذين حظوا برعايته وتوجيهه ومتابعته وحرصه الدؤوب والمثابر. تعلمنا من هدوئه وبساطته وتواضعه وعلميته الشيء الكثير، مثلما تعلمنا القيم الأخلاقية الرفيعة الثابتة الراسخة، فكان داخله، عدته وكلماته ، وبضاعته وأشياؤه. كانت البداية قطعة نثرية كتبتها بلغة تميزت ببساطة موضوعها ولغتها ومفرداتها، أسمعني من كلمات الثناء والإطراء ما أدهشني وأذهلني حينها شوقه وتعلقه بمدينة طفولته وصباه وشبابه ( الشطرة ). وهذا هو السر الذي دعاه ألى أن يشد على يدي ويشجعني لأن تلك القطعة كانت وصفاً لرحلة عبر الغراف نحو الشطرة كتبها بخط جميل، وهو الخطاط والرسام والفنان المبدع..قادتني هذه الذكرى لأستعيد مجداً علمياً وأكاديمياً شيده كبار مثقفي ومفكري العراق .. طواه الزمن.. وعلاه الغبار لأننا لانقيم اعتباراً لأساتذتنا ورموزنا .. إذ هناك قائمة طويلة بأسماء مبدعي العراق يستحقون منا أن نتذكرهم في الأقل ..ولا نبتعد أكثر من ذلك بالمطالبة بمنحهم كل الوفاء لهم ولعوائلهم وأبنائهم . وطلبتهم .. فوفاء منا لاولئك المبدعين الذين أمضوا في مسيرتهم العلمية لايطمحون بشيء سوى تأصيل الثقافة والمعرفة ولابد لي من الإسهام في تسليط الضوء على هذا الإنسان الذي فقده محبوه وأصدقاؤه وطلابه وأبناء مدينته .للحمداني أهتمامات عديدة الجوانب، فهو المعلم والأستاذ والشاعر والفنان، تنوعت مساهماته الثقافية واتسعت دائرة معارفه . فأصبح أسمه من بين الأعلام العراقيين في ميدان اللغة والأدب والشعر،على الرغم من قلة إنتاجه المنشور إذ ظل همه الفكري محصورا في قاعة الدرس فكان نموذجاً فكرياً يثير طلبته وزملاءه للاقتداء الجميل والحذو المثابر في التمكن من أدواته بلغة شفافة جميلة متواصلة مع أرث أمته ووطنه .ومثلما عرفه زملاؤه وطلابه عالماً جليلاً في تخصصه فقد عرفه الكثيرون شاعراً وخطاطاً ورساماًَ من الطراز الأول .. مازلت احتفظ بديوانه الشعري (ديوان الحمداني ) الذي ذيله بإهداء لي وأنا طالب أنهل من علمه وأدبه ، بخطه الجميل وأعتز به غاية الاعتزاز .بدأت مسيرة الراحل الحمداني معلماً في مدارس الشطرة ، أنتقل بعدها ليكمل دراسته الجامعية الأولى في (دار المعلمين العالية) في خمسينيات القرن الماضي. ومن ثم الانتقال إلى لندن للدراسة في إحدى جامعاتها ولشدة تأثره بالشاعر أبي فراس الحمداني، كانت أطروحته للدكتوراه قد درست هذه الشخصية وتتبع أثرها الشعري في المشهد الشعري العربي . ومن الطريف أن أذكر أن ديوانه الأول كان بعنوان ( ديوان الحمداني ) وأطلق اسم (فراس) على أبنه البكر فعرف هادي الحمداني أيضا بأبي فراس الحمداني .. وبقراءة سريعة لقصائد هذا الديوان ، نلمس بوضوح شدة حماسه للشعر العربي العمودي ودفاعه عنه، كما تأخذ (الاخوانيات) مساحة واسعة من الديوان وهو غرض من أغراض الشعر العربي لم يكتمل نضجه ويتسع مجاله كباقي أغراض الشعر الأخرى . كما يقول عنه الفقيد الحمداني ، في اخوانياته نكتشف الصداقة الثرة النبيلة التي عاشها وتفجرت في قلبه بأصدق المشاعر وأنبل العواطف، وهي مقياس صادق لمبلغ الوفاء وعمق الصداقة في نفوس الطيبين من الأصدقاء. حفل شعره بقصائد عديدة من هذا الطراز خاطب فيها أصدقاءه (وحيد الهلالي ، صادق الجلاد، حسين الصراف وغيرهم). وهو لا يتعامل مع الاخوانيات على أنها موضوع شعري فقط ، وإنما هو مرتكز أساس في حياته وشعره لما ينطوي عليه من دلالات فكرية وأخلاقية فضلا عن أبعاده النفسية والحسية لأنه يساعده على أن يحيا ويتذكر علاقته بهذا المرتكز وتأكيدا لشدة أرتباطه بالأرض والوطن وشعوره بحرارة الأنتماء لها .. فهو يدافع من خلال هذا المرتكز عن نفسه شاعراً وعن محفزات الأخوة على تفجير قدراته الشعرية.وعلى أية حال، فلم تتيسر حتى الان في حدود معرفتي أية دراسة شاملة وجادة لشعره لذا فالدعوة موجهة للنقاد ومتابعي شعر الحمداني أن تحظى تجربته الشعرية وما صاحبها أو من تعايش معها بالدراسة والاهتمام وجمع تراثه الشعري الموزع هنا وهناك.. أستاذي الحمداني..لا أريد هنا أن أرثيك، لكن هل يتسنى لي أن أرد بعض الدين..كنت مثل جميع الذين سبحوا في بحر المعرفة الذين لا يملكون غير مجاذيف الحكمة والأمل.. مضيت ، بعيداً في إرهاق قلبك .. كنت جمالياً، ذواقاً
مرآة الذاكرة
نشر في: 7 مايو, 2010: 04:41 م
جميع التعليقات 1
مصعب هادي الحمداني
كلمات رقيقة لا يسعني الا ان ادرك قيمة وثراء ما زرعه فيكم والدي الحمداني رحمه الله .. احببت ان انوه بان الدكتور هادي نهر قد نشر بحثا مطولا مع كل قصائده من الديوان الاول الى الثاني الى الثالث في كتاب وتم نشره في مكتبات العراق والاردن .. مع التقدير