أحمد الناجي
- 4 -
كان يعوم في أمواج النغم منذ الصباح، حيث يصدح صوت فيروز البهي يومياً، وبقية الأغاني تأخذ مداها الى الآذان، والأنغام الموسيقية الساحرة تصاحب الأصوات التي تتسلل الى الروح، فلمون وهبي ووديع الصافي ونصري شمس الدين، وغيرهم.
كما أنه كان يتحمل عناء السفر ومشقاته الى العاصمة بغداد، قاصداً مقهى أم كلثوم في منطقة الميدان، للاستماع الى أغاني كوكب الشرق التي تصدح فيها بلا انقطاع، لكي يعيش نشوة الطرب الراقي، وكان من الطبيعي أن يشير بعبارة صريحة الى أن: "علاقتي بالموسيقى هي علاقتي بالحياة" (ص180)، وليس ما أدرجناه فيما تقدم إلا بعضاً من ملامح اتصاله مع الغناء، وحيوية تواصله مع عالم الموسيقى بوصفها لغة المشاعر التي تمنح الروح دفئاً، وتضفي مباهج على الحياة، وربما تزيد من أمدها.
وبصفة عامة، تحقق له في وقت بكري من حياته عبر البيئة المكانية تماس مع عوالم الثقافة المتنوعة، وكان قريباً من روافد الإبداع التي تفتح العقل على مصراعيه، وترعاه وتوسع مديات الإدراك، وتستحث خصيصة التخيّل، وتشذب الذائقة الجمالية، وقد تكرست تلك المعطيات كلها بصورة عفوية في دواخله، وانغرست كثير من بذراتها تلقائياً في ذاكرته، ورقدت في وعيه الباطن، وهي من أكثر الأشياء تحريضاً على الإبداع، لاسيما عند الشخص الذي يبحث عن معنى.
ومن المؤكد أن النقيضين، ما يحرم منه أو ما يملأ العينين في مرحلة الطفولة، هما ميكانزمات ردات فعل النفس البشرية، وبعبارة ثانية، أن الممنوع والمقموع من جهة والمباح والمتاح من جهة الأخرى، يولدان احاسيس ومشاعر وانطباعات، متفاوتة المنسوب، تتداعى وترشح الى أعماق الصغير، وتنفذ الى دواخله، وتتوطن في مستقر لاوعيه، وتصير قابعة في المستويات التحتانية، وهي مجتمعة تعد محفزات لاشعورية، تشكل حزمة أساسية مركبة متشعبة المنشأ من الدوافع التي يمكن أن تسيح بدون رقابة، ولابد لها أن تطفو فوق السطح لاحقاً، متجلية تستفيق في لحظة ما، متفاعلة مع الانطباعات التي تصمد أمام النسيان، ويسهم هذا الخليط بفعالية مع مرور الزمن في استنبات الكثير من العوامل الدافعة نحو ميادين الثقافة والإبداع، وعادة ما يكون للاشعور أبلغ الأثر في منحى تحقيق الذات، ويفتح الآفاق المشرعة على تقبل الكثير من القدرات لاحقاً، فعلى سبيل الإشارة، أن الميكانزمات المتكدسة لدى صاحبنا في قيعان اللاشعور البعيدة، هي التي بلورت المؤثرات الدافعة في المراحل العمرية اللاحقة، ومنها ما حصل له بسبب رغبته أن يكون عازفاً موسيقياً التي لم يستطع تحقيقها، والمقترنة بفشل مغامرته على صناعة ربابة بدائية ، وهو بعمر ست سنوات، وما تعرض له من عقاب أبوي بسبب تلك النزوة، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر ظلت الموسيقى والأغاني الراقية الصادحة في أوقات معينة في البيت مؤثرة عليه، تتقاطر الى آذانه وتنساب بألحانها العذبة الى دواخله، والشئ نفسه ينطبق على اندفاعه نحو عالم الكتاب، وممارسة طقس القراءة مبكراً، الذي تلبسه وصيره مثابراً يلاحق الجديد من الكتب.
كبرت دائرة اهتمامه بالثقافة شيئاً فشيئاً، واتسعت صداقته الى عديد من ميادين الإبداع الأدبي والفني: الشعر والقصة والرسم والخط والسينما والغناء والتصوير الفوتوغرافي. ويأتينا صدى الكلمات معبراً عن خلفيته الثقافية المتراكمة بعد خمسة عقود: "إدمان القراءة والمشاهدة المستمرة والمتابعة اليومية لكل أنواع الإعلام، راكمت لدي خزيناً من معرفة عامة قابلة للاستخدام في خدمة الإنتاج في أي وقت، وتلقائياً" (ص174).
ولا تفوتنا الإشارة هنا نحو رؤية فرويد للأدب على أنه تعبير مقنّع، وبالتالي فهو إرواء لحالات ورغبات ومكبوتات في النواة المركزية للنفس، كما إننا لا يمكن أن نصرف النظر عن دافعية المهيمنات غير المدركة التي ترقد في منطقة ثاوية تحت اللاوعي في الطبقات العميقة من الذاكرة، التي كشفها كارل غوستاف يونغ، ويسميها الذاكرة الجمعية التي تلازم الوظيفة الإبداعية، وهي المتمثلة في الموروث الإنساني من فكر وخبرات وتجارب، بمعنى أنها عقل وتفكير وطريقة الرؤية للحياة عند الأسلاف، وهذا الغاطس غالباً ما يتشارك مع اللاوعي ليطفو بصورة مفاجئة، لاسيما على اثر التعرض الى خضات الواقع وهزاته العنيفة، بمعنى أن قوى اللاشعور الفردي أو الجمعي الغائر تدفع توجهات الانسان، حيث تقدح في لحظة معينة شرارة الفكرة، التي ينعطف لها الإنسان دون أن يفطن، وتسهم في نهاية المطاف بتشكيل إرادته الواعية، وبلورتها تدريجياً مع الأيام.
هناك الى جانب ما تقدم دوافع أخرى، تعرف بميكانزمات تحقيق الذات، غالباً ما تتلازم مع دوافع اللاشعور، وتكمل أحدهما الأخرى، إذ يرى يونغ بأن الإنسان ليس مجرد تراكم خبرات الماضي، إنه أيضاً مجموعة أحلام وآمال بالمستقبل، وينطلق يونغ من اعتبار كون الإنسان ليس مخلوقاً دائم التطلع الى الماضي والى الوراء، وإنما هو مخلوق يتطلع كذلك الى المستقبل والى الأمام، وهذه الحقيقة يحسبها يونغ ذات أهمية أولية في بلوغ تحقيق الذات.
حاولنا فيما تقدم تبيان الأسباب والعوامل على صعيد الجانب الذاتي التي تهيأت لنوفل الجنابي وبلورت ملامح شخصيته، ودفعت به الى الانهمام بالشأن الإبداعي وشجونه، ويترأى لنا أن المؤهلات والمواهب التي استطاع أن يحوز عليها مبكراً، مكنته على توسعة مستويات الإدراك وبالتوازي مع قابليات الإبداع، بدءاً من قدرات التذكر والتأمل والتفكر والتسريد والتخييل، مروراً بالتصوير الفوتغرافي وكتابة السيناريو، وانتهاءاً بعمله الاحترافي في الإخراج السينمائي للأفلام الوثائقية. وعلينا أن لا ننسى القول بأن مشتركات الصنعة متقاربة ما بين الفلم الروائي والتسجيلي، لاسيما عنصر السيناريو الذي يمازج الواقع بالخيال، فتنتظم خلف إبداعات الصورة المتحركة كل من الفكرة الى جانب الجمال الفني في مشهدية الشريط السينمائي.