طالب عبد العزيز
قبل أكثر من خمسة وخمسين عاماً، ، يوم كان الراديو وسيلة السماع والمشاهدة معاً، كان أحد أقربائنا- أحد الذين ظلوا حتى الوقت ذاك يحنون الى الملكية- يأتي الى بيتنا، الذي على النهر، حاملاً معه راديو،
يضعه في زنبيل من الخوص، ثم يصعد السطح ويبدأ بنصب السلك القصير ذي العودين الخيزران، وبفصي الخزف، على طرفي الكوخ، ثم يمد سلكاً آخر طويلاً من أعلى نقطة في البيت ليدخله في ثقب بالراديو. لم تكن إذاعة بغداد أو صوت العرب تعني له بشيء، إنما ينتظر حلول الساعة الثامنة من مساء الاربعاء، ليسمع برنامجه المفضل(حديث ابن الرافدين) لكنني، كنت أصغي لأصوات قرّاء المقام العراقيين اليهود من الراديو ذاته، وكثيراً ما كنت أراني حزيناً.
لم يبدُ لي أن فلفل كورجي في أغنية (كلما امر على داركم) التي كتبها ليغنيها بنفسه، يتحدث فيها عن عشق شخصي وتقليدي، بين امرأة ورجل، حبّ عابر لرجل وامرأة، التقاها في أحد شوارع بغداد، بقدر ما كان يتحدث عن زمن عراقي مضى. هناك أوجاع تعتمل في النفس المهاجرة، التي يشدها حنين جارف الى ما كانت له في بغداد، التي غادرها عنوة، وهو في عمر الخامسة عشرة، وبمعنى ما، إنه ينتمي الى عالم لم يعشه كاملاً إنما تحدثوا له عنه.
وفي أغانٍ كثيرة ظل الحزن عنواناً لمجموع ما غنّى، هناك حزن ممض، وهناك شجن لم تستطع الموسيقى إخفاءه، الألم الموغر في النفس، وانقطاع الأمل بالعودة هما مادة فلفل جوركي في مجمل ما غنى، ليس هناك من روح غير عراقية فيه، ولا يمكن تلمس أي سعادة له في البلاد الجديدة، التي ذهب إليها. (هم رجعوني من النهر عطشان، والي نسوني وطولوا نسيان ويلاه ويلاه..) هكذا هو، بعيداً عن يهوديته، التي قد يظن البعض بأنه وجدها في بلاده الجديدة (اسرائيل) أبداً، لم يتضح لي أنه كان سعيداً في مقامه هناك.
وها هو يقرأ المقام فيقول :"الروح كيف اصبرت يومٍ غده خلاها اذكر ليالي المضت بالويل ياخلها شدعي على العين بعود الرمد خلها هذا المقدّر ولا كن جابته ايدي ويحق لي عاد اهيمن واقطع البيدي يامحمد ينوحي يللي تجس النبض ماهو الالم بيدي جبدي مألم، جفوفي من اللمس خلها ". هذه الحسرات لا يمكن أن تكون مجرد عشق لأمراة، هناك مكان افتقده، وهناك صحبة انتهت، وهناك رفقة لم تعد.
هذا الشجن الذي نفتقده في الأغنية العراقية اليوم، والذي قدمه مطرب المقام الرائع فلفل جوركي في معظم ما غنى ما نفتقده، لا يمكن النظر الى ما غنى من باب ضيق على أنه رجل يهودي، أبداً إنما نقرأ ذلك الصوت البغدادي ببحته، وتبغدده، وشجنه مع يقيننا بان مغادرته بغداد لا يمكن أن تمر مرور العابر غير العابئ بأحزان النفس الإنسانية العراقية الخالصة.