د. فالح الحمـراني
التاريخ يعيد نفسه فعلاً، ولكن هذه المرّة يعيدها في العراق ليس بشكل مهزلة وإنما مأساوي. يعيد التاريخ نفسه بممارسة السلطة القائمة العنف وقمع المعارضة الشعبية بأبشع الوسائل وأكثرها دموية.
يبدو أن النخب السياسية والعسكرية لم تأخذ العِبر من دروس التاريخ، أو لم تتطلع عليه للحد الكافي، لم تتعرف على مسلسل الانتفاضات التي قام الشعب العراقي في سبيل بناء وطن مستقل وذي سيادة ومجتمع حر بكل معنى الكلمة يقرر مصيره بنفسه، مجتمع تتعايش فيه على قدم المساواة كل المكونات الدينية والقومية، وليس لدى طرف فيها فضلٌ على طرف آخر أو بيده " صك غفران" بأنه قيّم عليه.
التاريخ يعيد نفسه بصورة مأساوية لأن العنف ضد الشعب المسالم اكتسب طبيعة جديدة. لقد عرف شعبنا سابقا شرطة العهد الملكي ومؤسساته الأمنية ومن بعده الأنظمة الديكتاتورية والمستبدة وأساليبها، التي كانت تستهدف المعارضة بكل أشكالها، وتطورت على أيديها أدوات العنف والتعذيب الجسدي والنفسي الى حد غير مسبوق، والآن تحولت أدوات القمع الى "مسلح ملثم" يظهر ليلاً مثل أي خفاش ليقتل ببرودة دم أبناء شعبه العُزل، أبناء بلده العُزل من السلاح، يقتل بشراً ليس بينه وبينه أي ضغينة ولم يضمر لهم الحقد، إنه مجرد وسيلة بيد قوى أخرى أكبر تغذيّه عقائدياً ومالياً، إنه تحول بيدها الى بيدق تحركه أينما شاءت. العنف يطلق الأيدي ويؤدي إلى انفلات من دون عقاب ، وبالتالي إلى عدم المسؤولية وها هو يوجهه الى الجماهير التي تواصل الاعتصام والاحتجاج في ساحات بغداد والناصرية والنجف وكربلاء وبابل وغيرها من المدن العراقية الأصيلة. الملثم والقناص القاتل إنه وسيلة جديدة في تاريخ القمع في بلدنا..
حتى الآن ، تستمر اعتداءات الأجهزة الأمنية بمختلف أشكالها السافرة والملثمة، على المتظاهرين الذين يعون بصورة جلية أن هناك محاولات دنيئة لجرهم الى اللجوء للعنف، لأعطاء مبرر لضربهم. ومن غير المرجح أن الوعود وحدها يمكن أن تضع حداً لمزاج الاحتجاج القوي. ربما يمكن أن يطمئن الناس الآن ، ولكن بدون تحسينات كبيرة ، سيظل الموقف متوتراً وقد ينفجر مرة أخرى في أي وقت بسبب رصاصة قناص مشروطة ، بغض النظر عمن يقف وراءها. حتى أولئك الذين يرون ما يحدث باعتباره مؤامرة خارجية يعترفون بأن غالبية العراقيين مجبرين على البقاء في ساحات الاحتجاج ، ولديهم أسباب كافية للاستياء. وبالنسبة لموجة الاحتجاج التالية ، قد تكون مجموعة متنوعة الفعاليات، داخل العراق وخارجه.
الاحتجاجات الجماعية في الشوارع في العراق ، والتي بدأت منذ أكثر من شهرين ، لا تتوقف وتؤدي إلى عدد متزايد من الضحايا. عدد القتلى في اليوم هو بالفعل في عشرات ، وبشكل عام منذ بداية الاحتجاجات ، وفقاً لبيانات غير رسمية ، مات أكثر من 400 شخص. لكن استخدام الأسلحة النارية وحظر التجول الذي تفرضه السلطات لا يوقف المتظاهرين. مع مرور الوقت للاحتجاج التلقائي تكوّن للمتظاهرين هدف سياسي واضح، بما في ذلك السياسة الخارجية. ووراء الشعارات العامة لمكافحة الفقر والفساد ، ظهرت على الفور مطالب باستقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي. ثم جاء الطلب على حل المليشات، التي يشتبه أن امتدادات أجنبية وغيرها من المطالب الحيوية .
من الواضح أن الوضع بهذا الشكل قد يصل الى طريق مسدود. يتشكل معسكران بسمات واضحة. معسكر الاحتجاج الرافض بكل حزم وتصميم للعملية السياسية التي تشكلت بعد انهيار الديكتاتورية وآلياتها، والنخب الذي ظهرت خلالها وفشلت بإدارتها، والقوى التي تصر على بالمضي بالعملية كما، أو ربما أجراء إصلاحات ذات طابع تجميلي لا غير. ان هذا الوضع يتطلب إيجاد سبيل للخروج. إن الاحتجاجات الحالية جاءت أيضاً للقضاء تماماً على مخلفات الديكتاتورية. إن انهيار نظام الديكتاتورية لم يعنِ بتاتاً القضاء على عقليتها وأساليبها في الإدارة والحكم. إن الساسة الجدد الذين ركبوا الموجة بعد 2003 ، ونظراً لعدم وجود خبرة إدارية وسياسة لديهم تبنوا في الكثير من الأحيان أدوات وأساليب الأنظمة المقبورة. إن الشعب يخرج اليوم ليواصل تحقيق إرادته، وتصفية بقايا الديكتاتورية وإطلاق عملية سياسية حقيقية تنشد العدالة الاجتماعية والديمقراطية والحرية.
وفي هذا الصدد ينبغي الامتثال لبيان مجلس الأمن الدولي الذي دعا السلطات العراقية إلى إجراء تحقيق شفاف في حالات العنف ضد المتظاهرين. وقال البيان: "أعرب أعضاء مجلس الأمن عن قلقهم البالغ إزاء مقتل المحتجين ، وكذلك حول عمليات القتل والتشويه والاعتقالات التعسفية للمتظاهرين العُزل". كما يقول إن أعضاء مجلس الأمن يعترفون بالحق في التجمع السلمي في العراق. وقال البيان "دعا أعضاء مجلس الأمن السلطات العراقية إلى إجراء تحقيقات شفافة على وجه السرعة في حالات العنف ضد المتظاهرين." بالإضافة إلى ذلك ، أعرب أعضاء مجلس الأمن عن قلقهم بشأن "تورط الجماعات المسلحة في عمليات القتل والاختطاف خارج نطاق القضاء". ودعوا جميع الأطراف إلى أقصى درجات ضبط النفس. وقال مجلس الأمن: "دعا أعضاء مجلس الأمن إلى الامتناع عن العنف وتدمير البنية التحتية المهمة". واللافت أن روسيا وافقت على نص البيان بالرغم من موقفها المتوازن خلال الفترة الماضية، وحرصها على حل الأزمة من خلال حوار واسع بين الأطراف العراق.
وفي خضم الأزمة القاتلة التي يمر به البلد، المهددة بنشوب نزاعات جديدة، هذه المرّة بين قوى وتشكيلات لم تدخل سابقاً فيما بينها بالاحتراب، وربما بين الحلفاء أنفسهم، جرى تناسي الشتات العراقي في الخارج وإمكانية الاستفادة من إمكانياته في توفير ملاكات الإدارة والاقتصاد والتخطيط لإنعاش الإنتاج والبنية التحتية. كما لم توفر الى المستوى المطلوب الفرصة السانحة للمجتمع المدني ليقول راية ويدلي بصوته، بما في ذلك في اختيار رئيس وزراء يتمتع بالمواصفات التي باتت معرفة للجميع. هناك حاجة لأن تشارك مراكز المجتمع المدني في طرح الشخصيات التي ترى بأنها مناسبة لإشغال المنصب الرفيع من خارج النخب التقليدية، ولديها الإمكانات اللازمة للمساهمة في انتشال البلد من الانزلاق نحو هاوية التمزق والتشتت ووقف تفاقم الازمة وتصعيد العنف.
إن الانتفاضة التي كشفت وجود حالة ثورية وجنوح نحو الانفجار بكافة المعايير التي رسمها علم السياسة، هي انتفاضة وطنية، إنها وليد خرج من رحم المعاناة والصبر عليها وانسداد الأفق أمام كافة شرائح المجتمع لاسيما الشباب الذي يساوره الشعور بأنه بلا وطن
الأسوأ من ذلك ، سواء بالنسبة للعراق ودول الجوار والقوى الدولية المعنية، إذا كانت الدولة الإسلامية تستغل الاحتجاجات. بعد أن عانت من هزيمة في العراق وسوريا ، وتعود لتنفيذ أعمالها الإرهابية ونشر الهلع بعد أن أصبحت الحركة تحت الأرض ولا تكف عن محاولات استعادة الأرض المفقودة. إن خلق حالة من الفوضى في العراق وتفاقم التناقضات بين الخصوم المحليين حتى الآن يلعب في يد داعش.
يمكن أن يكون للفوضى السياسية في العراق عواقب وخيمة للغاية: يتم تنشيط خلايا الإرهابيين النائمة . وسيعود كل ما حاولت السلطات المحلية القضاء عليه بدعم من المجتمع الدولي . وليس من قبيل الصدفة أن جميع القوى السياسية الرئيسة تقريباً دعمت في نهاية المطاف مطالب الشارع ودعت إلى الحوار.