TOP

جريدة المدى > عام > في عصيان الوصايا..لطفية الدليمي تجوب في أقاليم الكتابة

في عصيان الوصايا..لطفية الدليمي تجوب في أقاليم الكتابة

نشر في: 21 ديسمبر, 2019: 06:53 م

علاء المفرجي

الروائية العراقية لطفية الدليمي لا تقدم كشفاً بسيرتها الذاتية في كتابها الجديد (عصيان الوصايا.. كاتبة تجوب في أقاليم الكتابة) الصادر عن دار المدى،

لكنها تقدم كشفا بسيرتها الابداعية وتحديدا في عالم الكتابة الروائية، وإن تناولت في الفصل الأول من الكتاب طفولتها وصباها، لكن كان ذلك قدر تعلق الأمر باختيارها عالم الكتابة الذي أثمر عن سبعين مؤلفاً لها بين الرواية والقصة، والترجمة، والدراسة النقدية، إضافة الى المسرح والتلفزيون، وكتابة المقالات الثقافية.

تؤكد في بداية الكتاب مقولة أن الكتابة لعنة، كما ترى الروائية (جويس كارول أوتس) في إحدى مقالاتها، لكنها تضيف:"غير أني أرى الكتابة لعنة نبيلة ونعمة خلاص، برج مراقبة يمتُعنا بالكشف عما يؤرقنا من أسئلة الوجود وحيرة النفس وهي تعبر مسالك هذا العالم المضطرب".

فهي بالكتابة تجاوزت وضع الأنثى المُقصاة من واجهة المشهد الثقافي والفكري في مجتمعها، وثابرت طويلاً وعملت في أقسى الظروف، متخلية - بزهد حقيقي ومن غير أسف - عن الكثير من متطلبات الحياة والعلاقات الإجتماعية للتحتل الموقع الذي أردته بإصراري وجهد السنوات الطوال.

تقول:"لم يعلمني أحد كيف أكتب، إنما كنت أكتب حسب، وأقطف الكلمات من الهواء كما أقطف ثمار التين من شجرتنا العتيقة، أتلذذ بالكلمات بديلا للحلوى التي لم أحبها، أرددها في الصمت خاشعة إزاءها ثم أرتلها بنبرة خافتة كأنها اللقية الثمينة، لم أحلم أن أكون كاتبة في يفاعتي، كنت أعيش حالة ذهول باللغة والطبيعة والنخل ونهر ديالى والبساتين الغامضة وشجر البرتقال والغيم وأتمنى أن ينساني الآخرون في مكان ما وحدي مع الكلمات، أن يغفل أهلي عني لأستغرق في أحلامي وصمتي وملاعبة الكلمات، كل الكلمات التي تفيض من عقلي وقلبي كنت أكتبها ولاأنطقها، وبقيت ومازلت أصغي وأكتب حسب ولاأتكلم إلا عند الضرورات، لهذا لايمكنني أن أكون كائنا اجتماعيا أو وجها مدرجا على شاشات الإعلام، ولطالما كنت أهيم في أفكاري بينما بحر اللغة المتلاطم يغرقني بالكلمات"..

تقدم الدليمي في الفصل الاول المعنون (شهادة عن المؤثرات الأدبية وأوّل الكتب) لمحة عن سنوات طفولتها، وما وضعه القدر في مسيرتها، وأسهم في نمو تلك الموهبة التي طرقت بها افاق جديدة.

"رائحة الكتب الصفراء - الورق الهشّ والطباعة الحجرية، مزيجٌ من روائح كانت تفور من نبع سرّيّ في حجرة معتمة تسلّلتُ إليها ذات ظهيرة صيف أنا الصبية الصغيرة التي تتصبّب عرقاً وترتعش وهي تعبر الغرفة إلى كشوفها الأولى لتمزق أوّل الحجب. الخوف من انكشاف تسلّلي إلى حجرة المُحرّمات يرعش يديّ النحيلتين وهما تقلّبان الكتب الشهيّة في بصيص نور يتسلل من كوّة وسط السقف".

كانت هذه خطوتها الاولى عند عتبة هذا العالم السحري الذي سيقودها الى اكتشاف كينونته.. كان أبوها ماركسياً حالماً باليوتوبيا والعدالة موهوماً بالنظرية التي سحرتهم وعودها الفردوسية، هو وصحبه كانوا يتداولون كتباً ومجلات وصحفاً تعذّر عليّها - وهي إبنة التاسعة - أن تعي مضامينها، وكانوا يتعمدون إغواءها بقراءتها وما كنت تحفل بها آنئذ، تقلّبها بعجالة وأهجرها إلى أحلامها وقصصها الطفولية التي كنت تكتبها وترسم وقائعها في الصفحة المقابلة.

"وأنا الصبية مهدورة الروح بين الإلحاد الذي وُصِم به الأب في أوساط المتدينين وبين ليالي الذكر والمدائح النبوية وتمجيد الرّسُل وصيحات الوجد: حي.. حي.. حي، كنت أتبدد ما بين الرفض والقبول لكلا الأمرين وأبحث عن منجى في الركون لملاذ أجهل بلوغه".

في فصل (أنا من سلالة مائية) تقول لطفية الدليمي: "على غير مادرج الناس في أنسابهم أحسّني أنتسب إلى سلالة مائية: سلالة أؤلئك السومريين الهابطين إلى دلتا النهرين من فردوس مفقود، قد أكون كاهنة من كاهنات القمر أنا سليلتهم التى ضلّت في متاهات التأريخ، قد أكون إحدى الناجيات من حقب الطوفانات العظمى، أنقذني (أتراحاسس) - نوح السومري - في فلكه المحبوك من القصب والمطليّ بالقار وأتى بي من زمن إلى زمن، وجدني وحيدة عند معبد أور في برهة إنهيار دويلات المدن السومرية، وانتشلني من لجج الغمر المائي وأنا أحمل تمائمي وتعاويذي المتمثلة بالنبع الفوّار والقمر والبرق وألقى بي في وحشة الزمن المعاصر وحيدة أيضاً كما وجدني هناك."

درست البيانو على يد العازفة العراقية الشهيرة بياتريس أوهانيسيان ودرست الرسم دراسة حرة لدى الفنانين الراحلين خالد الجادر ونزيهة سليم، جرّبت الرسم قبل أن تنصرف كلية للكتابة فلم تجد نفسها فيه، أما الموسيقى فقد إكتفت منها بالسماع وعزف بعض الدندنات على البيانو..

وفي الفصل المعنون (الطاقة السحرية للكلمات) تقول المؤلفة: "من الصعب أن نتخيل كاتباً يُحرَمُ من الكلمات؛ فتلك عقوبة ترقى إلى مصاف التعذيب النفسي، فما معنى حياة الكاتب من غير الكلمات؟ لايدرك وجعَ الحرمان من الكتابة ومرارة العجز عنها سوى كاتب سُرِقت من روحه الكلمة".

فتطويع الكلمات لتجسيد الأفكار والرؤى والأحلام مهمة ليست باليسيرة ولايمسك بها غير الشاعر الفنان والكاتب الرائي والروائي المنضبط مثلما يمسك المؤلف الموسيقي بالنغمة الصحيحة متفاديا خلل النشاز؛ فجمال الكلمات لايُقدَح شررُه دونما فكر واقتدار في القول وبراعة في استخدام المفردة لإطلاق موسيقاها الخفية وسحرها الكامن في ذاكرة البشر ومخيّلات المبدعين.

تنظر لطفية الدليمي إلى الرواية على أنّها إحدى المنتجات الأكثر تميّزاً التي جاء بها عصر الحداثة مع بدايات القرن العشرين - القرن الذي شهد ثوراتٍ عظيمة ساهمت في إعادة رسم المشهد الروائيّ بالكامل.

فالثورات الفيزيائيّة عملت على تغيير نظرتنا إلى الواقع وتغيير طريقتنا في التعامل معه وكيفيّة تناوله، "الأمر الذي ترتّب عليه حتماً تغيير طبيعة الإشتغالات الروائيّة لأنّ الطبيعة المفاهيميّة للواقع تعدُّ نقطة الشروع الفلسفيّة التي تخدم كأرضيّة (أو خلفيّة) يقيم عليها الروائيّون هياكلهم الروائيّة في كلّ العصور منذ بدء الفنّ الروائيّ (الذي نشأ مع رواية سرفانتس: دون كيخوته كما يعتقد الكثيرون؛ في حين يرى آخرون أنّ الرواية - كفنٍّ راسخٍ - بدأت مع نشر صامويل ريتشاردسون Samuel Richardson لروايته باميلا Pamela في القرن السابع عشر) وحتى أيّامنا هذه".

تبوح الدليمي باعترافات ومقالات عن رؤيتها لحياتها كاتبةً تجوب أقاليم الرواية وتترحّل في عوالم روائيين من عالمنا وتضيئ بعضاً من تجاربهم التي تقدم لنا رؤية أوسع وأشمل للجهد الروائي في عالمنا المعاصر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram