TOP

جريدة المدى > عام > رسوم ساحة التحرير..الرسم حينما يواكب الحدث

رسوم ساحة التحرير..الرسم حينما يواكب الحدث

نشر في: 22 ديسمبر, 2019: 07:35 م

علي النجار

لم تكن الرسوم الكرافيتية يوماً ما عبثاً ولا نزوة. بل هي وجدت كنتيجة لرغبة ملحة لمن لا يتمكن من خوض غمار الفن الرسمي(الصالات وما شابه).

لذلك هو أصلا بعيد كل البعد عن شروطها الفنية وعرابي مؤسساتها. وكممارسة تمتلك حريتها وعفويتها لتلبية حاجة شخصية غالباً ما تكون متمردة على عموم ممارسات أو أخلاقيات لا تستغيها. أو للتمرد على مفصل من مفاصلها. بشكل عام هي غالباً ما كانت رسوماً عبّرت عن حراك عفوي لمجتمع الضواحي المهمش من قبل مؤسسات الدولة أو المؤسسات المتحكمة بالاقتصاد والسوق.

هذا ما شاهدناه في بداية خروج هذه الرسوم الى الشارع بدعم وتوجيه من قبل المافيات المهيمنة على المناطق المهمشة من المدن الكبرى، كوسيلة إعلامية في محيط سطوتها كما في بعض من دول أوروبا والولايات المتحدة، وكآلية إشهارية لرموزها وموروثها الخلفي الخفي. بما يعني أن نوازع التمرد هي التي أسست هكذا ممارسات فنية في ذلك الفضاء الخلفي لتلك المدن وليغزو بالتدريج الفضاءات العامة الأخرى خفية أو من خلال التحايل على قوانين البيئية المعمارية للمدينة. لكن وبمرور الزمن بدأ اللعب بمساحة أوسع على مفاهيميتها ومقاصدها المختلفة من قبل فنانين محترفين اتقنوا لعبتها. للحد الذي باتت فيه هذه الرسوم في بعض من هذه المدن محجة لرواد ومريدي هذا الفن المعروض في فضاءاتها للعلن.

بما أن موضوعنا الذي نتناوله ذو صفة سياسية مقرونة بحدث لا يزال فاعلاً في الساحة العراقية الملتهبة والذي أنتج من ضمن ما انتجه الكثير من الرسوم الكرافيتية المساندة والمفككة لحدث الثورة الشبابية في ساحة التحرير. لا بد لنا إذن من أن نبين هنا الفروقات الواضحة ما بين رسم البوستر السياسي الذي تزامن وزمن انبعاث هذه الرسوم الحائطية عبر وسائل التواصل الاجتماعي كمشاركة للفعل الاحتجاجي. رغم اشتراكهما في الهدف ووحدة الأرضية الفكرية وأهدافها التي تصب في مجال إيصال رسائل موحية وموجهة للمتلقي. بالنسبة للبوستر من قبل فصيل سياسي أو حركة سياسية لتجمع مدني أو حتى مؤسساتي رسمي أو حتى من قبل فنان محترف دفعه وعيه السياسي وحاجته للتضامن لينفذ أفكاره الخاصة التي تخصبت في فضاء التحرير. فالبوستر واضحة أهدافه ونوايا تنفيذه بشروط تناسب تلك الأهداف المعلنة في هذه المناسبة مع المحافظة على بثه عبر قنوات الميديا، بينما رسوم الجدار لها مساحتها الإعلامية الخاصة التي لا تزال معظمها وبشكل عام لا يقف خلف منفذيها رعاة رسميين أو أية مؤسسة داعمة. هي نتاج ذاتي لا يتقيد فيها الرسام حتى في وسيلة أو طريقة انتاجه. بقدر ما تخضع للحالة الآنية التي وجد نفسه في خضمها. فالرسام هنا لا يتقيد بأية ضوابط، غير إمكانيته الذاتية للتعبير عن الحدث بالطريقة التي يجيدها بدون الالتفات غالباً للمقدرة الفنية الفائقة في الإخراج والتنفيذ التي غالباً ما يتمتع بها منفذ البوستر. هذا الفرق الواضح أعطى لرسام الجدار مطلق الحرية لمحاورة خطابه الصوري(الذاتي ـــ الجمعي). في حالتنا (ساحة التحرير) ليس أمام الرسام الكرافيتي(رسم الحائط، أو رسم الشارع) سوى تنفيذ فكرته بالوسيلة التي يجيدها. وما دام الحائط يستقر على ناصية الشارع. لا بد أن يكون لزخم الساحة العاطفي، ولحوادثه الدراماتيكية ونبضها المتسارع أنْ ينعكس على مخيلته ليجترح رسوم مشخصاته ورموزها المستلهمة من بؤرة الحدث الذي وجد نفسه متفاعلاً ومحيطه. ليست المهارة هنا مطلوبة في صياغة أسلوبية متميزة، بقدر التقاط جزيئات الحدث المتناثرة المراد تمثيلها. في خضم طقس هذا الحراك الشبابي المتفجر إرادة وغضباً ووعياً. ضمن هذا المجال من السهولة أن يلتقط الرسام..الرسامة التفاصيل التي يودّون بثها لجدارهم مباشرة. فلا مجال هنا للتأني كما في انتاج العمل الفني المشغول لصالات العرض. قصدية كهذه تتبخر تحت سطوة الحدث وحراكه الفوار المستمر. فالرسام هنا غالباً ما يلتقط الاشارات الأكثر وضوحاً من هذا الحراك الجماهيري وتفاصيل من أداء المتظاهرين والأداء المنضبط لجمهوريتهم(ساحته). للحوادث للتضحيات ووسائل قمع السلطة المباشرة وحوادث الاستشهاد المتكررة. ضمن خلية النحل الفوارة والمتعاظمة هذه الكثير والكثير من صور التي توفر للرسام الكرافيتي مجالاً خصباً لتنفيذ رسوماته وأفكاره ومدوناته.

ما استوقفني في هذه الرسوم انعدام الفواصل ما بين الرسم الإحترافي(سنان حسين) و(عدنان برزنجي) لكل منهما أسلوبه الخاص الذي ترك بصمته على الحائط. كما غيرهم مثلاً. وما بين الفنانين الهواة والعديمي الخبرة في تنفيذ العمل الفني. رسوم تفصح أكثر مما تؤول. رسوم معقدة تفاصيلها، رسوم مبسطة. ورسوم ساذجة لكنها معبرة. نصوص ورموز وبقايا آثار الواقعة. بمجملها لا يمكن تصنيفها ضمن عنوان فني معين. فهي(فن مقاوم) و(فن احتجاجي) وفي(جداري كرافيتي) كما رسوم فن الشارع المتعارف عليها التي تضمر المغزى والمعنى في آن واحد. وما دامت الجدران هنا مشاعة. فلا بد أن تماهيها الرسوم في مشاعتها. ما يهم المشاهد، وهو هنا متفاعل والحدث، أن يجد بعض مما يحدث وبعض مما يصبو اليه فيها

ـــ الفن المقاوم غالباً ما مارسه فنانون محترفون لمعارضة السلطة وأصحاب النفوذ بأعمال احترافية استعملت مختلف المواد في تنفيذها وانتشرت في أوساط معينة. 

ـــ الفن الاحتجاجي غالباً ما مارسته المنظمات والأنشطة الاحتجاجية في المظاهرات وغيرها من وسائل الاحتجاج.

لذلك أجد أن رسوم ساحة التحريري الجدارية هي خليط من كل ذلك. لكنها تبقى بنت لحظتها ومناسبتها المواكبة للحدث، وليست مؤسساتية كما في غيرها كما أشرنا اليه أعلاه.

معارض الرسوم التقليدية في أروقة نفق التحرير باهتة إذا ما قورنت برسوم جدرانه. أولا لصغر حجمها ومواضيعها التقليدية رغم اشاراتها للحدث. فلا مجال هنا لأسلوبية واقعية مبسطة، لوحات مسندية معروضة كما بضاعة لا أكثر. الحدث(المظاهرة.. الاعتصام.. الثورة) لا تستوعبها هكذا رسوم. الحائط بسعتها وبتفاصيلها ومعايشتها للثورة. هنا الايقونة(صفاء السراي) وبقية الشهداء. أسماء مشخصات مدونات تخليد وشجب وإدانة ومثل أعلى. هنا حائط الشهداء الأسود وسواد فعلة القتلة بطرفهم الثالث وبقية الأطراف. هنا التكتك يسارع السحاب. هنا المسعفين والمسعفات، هنا والدة الشهيد والشهادة، هنا أدوات القتل والملثمين، هنا التاريخ القديم بقناع الغاز خوفا عليه من الفناء. هنا اللعب بالألغاز السامية التي صعدت للسماء. هنا مقاومة الصد وشخوصه. هنا جبل التحرير وشبابه. هنا بغداد التحرير للفتيات والفتيان للفنانات والفنانين ولكل من يود أن يوقعه بتوقيعه أمنية أو رسمة أو إشارة. انها جمهورية رسم التحرير. الخارجة من رحم أنقى الثورات وأغلاها تضحية. رسوم جدران عصية على التصنيف. غير تصنيف لحظات تدوينها الثورية. انها رسوك الثورة. 

لقد اشترك الكثير في تنفيذ رسوم ومدونات هذه الجدران. وكما أشارت(الأندبندنت) الى أن الرسوم التي غطت جانبي النفق نفذها فنانون منهم(سنان حسين، باقر ماجد، حيدر سالم اسكندر، سجّاد مصطفى، أنور البديري، عبدالرحمن سداد، ستار جاسم وأحمد ماجد ومهند الساعدي ومحمد جبار، هند علي وشهد سعد، كروب لمة وطن، وسام جزي، فاطمة حسام، أحمد طارق، رياض الجبوري، علي الصالحي، أسامة صادق، أمين أيمن وسارة نور). اعتقد بعد هذه التجربة الجديدة(نعم هي جديدة في تفاصيل رسومها ومضامينها التي تختلف عن رسوم الجدران الكونكريتية التزينية السابقة لها)، رغم عدم انتظامها في اية أسلوبية، وحتى ما متعارف عليه من رسوم الجدران الأوروبية ووسائل تنفيذها. أعتقد سوف تكون للرسوم الجدارية(الكرافيتي) نماذج جديدة لعصر عراقي متجدّد. وذلك لما تركته وتتركه هذه الرسوم من أثر مباشر على الحدث ومساحة التعبير فنياً وجمالياً ودلالياً، وإمكانية اشتغاله على مضامين أخرى مستقبلاً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram