ستار كاووش
كانت ساحة سانتا كروس مكتظة بناس مختلفي الأصول والمشارب والسحنات، يتجولون غير آبهين بالمطر الخفيف الذي باغت مدينة فلورنسا منذ الصباح.
شققت طريقي وسط الزحام، لأصل الى مدرج الكنيسة العظيمة التي تحمل إسم الساحة ذاته، فعطفتُ قليلاً نحو اليسار، ليداهمني تمثال الشاعر دانتي وهو ينتصب متلفعاً بردائه بطريقة دراماتيكية وممسكاً بكتاب، وقد أدارَ رأسه -الذي غطاه بطوق من الغار- بإلتفاتة حادة، كمن يريد التأكد من شيء ما، ليُثَبِّتُ نظراته وسط الساحة الى الأبد، وهو يستقبل زائري المدينة، وهذا التمثال من إبداع النحات الايطالي إنريكو بازي. رفعتُ رأسي وحَيَّيتُ أب اللغة الإيطالية ثم دلفتُ نحو شارع دي بيبي، وقد توقف المطر بعد أن غسلَ أكتاف التماثيل التي إلتمعت في كل زوايا المدينة. وعند نهاية هذه الجادة بدأت الشمس تستعيد ظهورها ويسقط شعاع منها على بيت لاحَ من بعيد، أنه بيت مايكل أنجلو أعظم نحات في التاريخ، وقد تحول الى متحف، فتمهلتُ بخطواتي، حتـى وصلتُ المكان الذي يعود لأكثر من خمسمائةِ سنة، متطلعاً لمايحمله من إبداع وقيمة فنية وتاريخية.
إجتزتُ البوابة المقوسة لهذا البيت (المتحف) الذي كان عبارة عن أربعة بيوت إشتراها مايكل أنجلو وضمها معاً لتصبح بيتاً واحداً. وأنا أفكر بالطريقة التي أبدأ فيها بمشاهدة المكان إنفتحت أمامي قاعة وُضِعَتْ فيها سبع بورتريهات تمثل هذا الفنان العبقري، رسمها له فنانين من مختلف العصور، حيث يظهر الفنان بهيئته الغريبة وملامحة الحزينة. تجولتُ قليلاً في البيت لأفاجأ بمجموعة من القطع النقدية والميداليات القديمة التي جمعها الفنان، وهي تعود لمدينة القدس في قرون بعيدة مضت، نُقِشَتْ عليها ريليفات مختلفة، ومقابلها وُضِعَ كرسي قديم كان النحات العظيم يستريح عليه بعد عمله الشاق كنحات. ذهبت الى قاعة أخرى وهناك جذب إنتباهي منحوتة صغيرة وضعت في الزاوية، وهي تمثل وجهاً مخيفاً غريب الملامح تمتزج فيه ملامح الانسان والحيوان معاً، كان مايكل أنجلو قد نحته في صباه وإحتفظ به سنوات طويلة، وأثناء حياته كان يعلقه على واجهة البيت. توقفتُ هنا وهناك أمام بعض اللوحات التي رسمها هذا الفنان الفذ وأنا أتابع تقنيته الفريدة، لأدخل صالة وضع وسطها نموذج لعربة خشبية مربعة الشكل وعالية الجوانب، إقتربت أكثر لأرى تمثالاً قد إستقر بداخلها، إنه نسخة مصغرة لتمثال دافيد، وهذه العربة هي نموذج صغير للعربة الكبيرة التي نُقِلَ بواسطتها هذا التمثال الضخم سنة ١٨٧٤ من ساحة سنيورنا الى أكاديمة فلورنسا حيث يستقر حتى هذه اللحظة. خرجتُ من هذه الصالة أبحثُ عن نفائس أنجلو الأخرى، فلمحتُ سلماً يؤدي الى أعماله المبكرة، وهناك وسط قاعة صغيرة وُضع تمثالاً من الرخام الأبيض نحته إحد فناني فلورنسا لأنجلو بعد وفاته، ويظهره كصبي صغير مولع بالنحت وهو منشغل بالعمل على منحوتة (الوجه البشع) وكانت ملامح هذا الصبي الذكي المنهمك بعمله تنعكس من التمثال مثل ضوء أبيض طاهر ونقي. على اليمين من ذلك إحتشد العديد من الزائرين وهم يتطلعون الى أحد الريليفات المثبتة على الجدار، إقتربت لأرى منحوتة السيدة مريم وهي تحتضن السيد المسيح، والمفاجأة هي أن مايكل أنجلو قد نحت هذا العمل المذهل وهو في الخامسة عشرة من عمره! يالجمال الأصابع والأقدام وطيات الثياب، أنظرُ الى عمق المنحوتة وأتابع حركة الجسم حيث تحول المرمر الى حياة، وأتسائل مع نفسي: من أين لصبي بهذا العمر كل هذه الموهبة والخبرة في تتطويع الحجر؟! أتراجع قليلاً الى الخلف وأنا أفكر بعظمة هذا العمل لأرى على الجانب منحوتة أخرى، تبدو أكثر تعبيراً وقوة، وبتكوين مدهش، إحتشدت فيها عشرين شخصية تقريباً، وهذا العمل قد نحته أيضاً بعمر الخامسة عشرة. وقفتُ أمام عظمة هذا الفن، لأعرف في هذا المكان بالضبط لماذا كان مايكل أنجلو وسيبقى أعظم نحات في التاريخ.
خرجتُ ممتلئاً بالمعاني والعرفان لهذا الفنان العظيم ووقفتُ أمام الباب الخارجي حيث مازال هناك شعاع من ضوء الشمس يسقط من الأعلى ويستقر على ملامح تمثال مايكل أنجلو النصفي المثبت فوق بوابة المدخل، وكأن السماء والطبيعة يحتفيان به الى الأبد. وقفتُ قليلاً تحت ضوء مايكل أنجلو، لأبتسم لهذا الصديق العظيم وأسحب خطواتي بإتجاه وسط المدينة.