د. فالح الحمـراني
جذبت الاحتجاجات الاجتماعية الجماهيرية في العراق المتواصلة على مدى شهرين ، والتي تسببت في استقالة حكومة عادل عبد المهدي في 29 تشرين الثاني، اهتماماً كبيراً وانتباهً زائداً من دائرة المحللين الإيرانيين.
وثمة إجماع بينهم على أن الحفاظ على المستوى الحالي من النفوذ السياسي في العراق مهم للغاية بالنسبة للسياسة والأمن الإيرانيين. وأن العراق هو "الجار" الجغرافي/ السياسي الأهم لإيران وتعتبره امتدادها الاستراتيجي.
إن هموم إيران العراقية ناجمة من عدة عوامل. بالدرجة الأولى، أمنية حيث يعتمد أمن إيران بشكل مباشر على الوضع على الجهة الغربية، وهو ما يتضح بجلاء من خلال التاريخ الكامل للقرن العشرين. ومن الأمثلة على ذلك الحرب الإيرانية العراقية في الفترة 1980-1988 ، التي حصدت بسبب الطموحات السياسية للنظامين العراقي والإيراني أرواح أكثر من مليون شخص من كلا الجانبين، وألحقت أضراراً جسيمة للاقتصادين العراقي والإيراني. ومن هنا أعادت طهران حساباتها وباتت تسعى تحويل " الجار" على الحدود الغربية إلى حليف استراتيجي موالي لها بشكل مطلق. وكما جاء في احد الدراسات الرصينة في منصة تهتم بالشأن الإيراني عن خلفيات الرؤية الستراتيجية الإيرانية للعراق : لا يمكننا فصل دوافع الدور الإيراني في الاصطفافات الحزبية العراقية عن الدوافع الإيرانية الكبرى المتعلقة بمركزية العراق في الفكر الستراتيجي الإيراني، إذ يمثل العراق خطًّا فاصلًا وسدّاً منيعاً ظل لفترات تاريخية طويلة يفصل بين حضارتين، ما يجعله إحدى أهمّ حلقات الممرّ الإيراني المزعوم الذي يربط إيران بالبحر المتوسط، فضلًا عن المكانة الجيوبوليتيكية للعراق بوقوعه على رأس الخليج العربي الذي يكون مع بقية دول الخليج العربي أكبر مصدر للطاقة في العالم.
وارتباطًا بما سبق، تشير الدراسة الى أن العراق يمثل ممرّاً بريّاً وحيداً بين الشرق الأوسط وآسيا حتى المحيط الهندي، ويقع ضمن الجسر الأرضي الذي يربط القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأوروبا، وبرزت هذه الأهمية منذ الحرب العالمية الثانية، وكانت الدافع الرئيس لاحتلال بريطانيا للعراق عام 1917، ثم للغزو الأميركي للعراق عام 2003، وهو ما فطنت إليه إيران ووظفته توظيفًا استراتيجيًّا يخدم مشروعها الإقليمي في الشرق الأوسط، ناهيك بالأهمية الاقتصادية للعراق، إذ يأتي في المرتبة الثانية عربياً بعد السعودية في قائمة البلدان التي تحتوي على أكبر احتياطي مؤكد من البترول الخام، وتشير الأرقام إلى أن حجم الاحتياطي العراقي المؤكد من البترول يصل إلى 12.5 مليار برميل، أي ما يعادل 11% من إجمالي الاحتياطي العالمي. العامل الآخر للأهمية الاستثنائية للعراق الذي تستخدمه إيران تاريخياً ( يذكرنا لحد ما بدعاوى الصليبيين بالأرض المقدسة في فلسطين) هو وجود أضرحة الأئمة الشيعية (رض) على أراضي العراق في مدينتي النجف وكربلاء، اللتين كما هو معروف تتمتعان بأهمية رمزية كبيرة بالنسبة للوعي الجماعي للشيعة. ولا يخفى أن الإيرانيين أولوا اهتماماً خاصاً لهذه المدن المقدسة في صيف عام 2014 أثناء ظهور فلول داعش، حينها كان الإيرانيون، ما تردد، على استعداد لإرسال قواتهم المسلحة إلى الأراضي العراقية لحماية هذه المراكز المقدسة. في هذا الصدد ، يتضح الهم الإيراني والقلق البالغ إزاء حقيقة أن الاحتجاجات يمكن أن تهز هيمنة الأحزاب السياسية الموالية لإيران في العراق، وتتسبب كما يزعم المحللون الإيرانيون في كتاباتهم في زيادة النفوذ الأميركي في بلدنا. ومن الأمثلة النموذجية لهذا النهج أشار المحلل السياسي اندريه كوزنتسوف الى مقال الكاتب الإيراني صلاح الدين خديفة الذي جاء بعنوان، "هل تحاول أميركا تعزيز موقعها في العراق على غرار مصر والسودان؟" ، نُشر على بوابة الدبلوماسية الإيرانية (الدبلوماسية الإيرانية) يصف المؤلف النظام السياسي الحالي في العراق بالديمقراطية العرقية والدينية! (ديمقراطية الطائفية) ولا ندري من أين جاء السيد المؤلف بهذا الاصطلاح للديمقراطية. إن معايير الديمقراطية التقليدية واضحة، ولا يمكن أن تكون على الإطلاق عرقية أو دينية، إنها نتاج حضارة تخطت هذه المفاهيم، وجعلت البشر مواطنين يتمتعون بحقوق متساوية، واحترام الأغلبية السياسية ( طبعا) تحترم حقوق الأغلبية بالكامل ونشر العدالة. ومادام ان الفكر السياسي الإيراني مؤدلج حتى النخاع فان المؤلف ينظر للتطور التاريخي في العراق من وجهة نظر مذهبية بحتة وكأنها المحرك الرئيسي لمسيرة التاريخ، لذلك يقول: " إن شيعة العراق، الذين يشكلون الأغلبية في هذا البلد ، قد فازوا بالسلطة في عام 2005 ، لأول مرة في تاريخ هذا البلد. في الوقت نفسه ، تم إبعاد النخبة السنّية التي حكمت في الماضي من السلطة إلى حد كبير". وفيما يتجاهل أن الشيعة انفسهم موزعون على تيارات وأحزاب ورؤى متعددة، فيدرجهم تحت مسمى واحد متناسيا تنوعهم، وينسب لهذا المكون الاجتماعي الأكبر على أي حال، وليس للشعب العراقي ككل بكافة قومياته وأقلياته الإثنية والدينية التمكن من قمع مقاومة كما وصفهم بالإسلاميين السلفيين الراديكاليين في شخص "الدولة الإسلامية" والكفاح من أجل سلامة الأرض العراقية. بالطبع لا يمكن تجاهل الدور الرئيس الذي لعبه "الحشد الشعبي" الباسل والبطولات التي أظهرها في هذا المضمار، ولكن الحشد الشعبي أيضاً انتماء عراقي بالدرجة الأولى، وبعدها تأتي تفرعاته المذهبية والدينية والقومية. الأول الانتماء الوطن. وهذا ما لا يريد أن يؤكده المؤلف الإيراني. يريد أن يعيد أبناء الشعب العراقي كل إلى " بيداء" المذهبية والدينية والقومية، ينسى إننا انصهرنا منذ زمان في شعب واحد هو الشعب العراقي وفي وطن هو " العراق"، ونسعى لتعزيز هذا الاتجاه، هو الوطن الذي يريد شباب ساحة التحرير وساحات الانتفاضة المنتشرة في مدن البلاد الأخرى، استعادته بشعار " نريد وطن".
الهم الإيراني على لسان المؤلف يتجسد حصراً من الولايات المتحدة تريد الاستفادة من انتفاضة تشرين المجيدة، التي تنادي بعزل النخب السياسية العراقية الفاشلة التي شغلت مواقع خطيرة في الاولمب السياسي المحلي وضد الفاسدين في صفوف السلطة، وبالتالي تتمكن ( واشنطن) من " إضعاف مواقع إيران". والى جانب أن المؤلف يتجاهل المطالب الحقيقية لشباب الانتفاضة، وكونها جاءت تعبيراً عن إرادة الملايين من أبناء شعب العراق، فأنه يحصرها فقط في كونها تهدد المواقع الإيرانية، الذي يريد أو لا يريد باعترافه إنها متحالفة مع " النخب السياسية الفاشلة والفاسدين"، الذين يدعي أن أميركا تريد إزاحتهم. لا ليس أميركا ولا أي يريد أي طرف آخر، وإنما الشعب العراقي بأغلبيته المطلقة يطالب بمغادرتهم الساحة السياسية لفشل أدائهم وإدارتهم وإلحاقهم الضرر في كيان الدولة العراقية الحديثة، الفتية تاريخيا. وحتى المطالب العقلانية الداعية الى دمج الحشد الشعبي الباسل في كيان القوات المسلحة، وقرار حكومته بأن تعمل جميع قوات الحشد الشعبي كجزء لا يتجزأ من القوات المسلحة، وتسري عليها جميع ما يسري على القوات المسلحة، وتعمل هذه القوات بإمرة القائد العام للقوات المسلحة ووفق قانونها(…) فان المؤلف الإيراني يلمح الى إنه هذا خطوة أميركية تهدف الى تعزيز قدرات الجيش العراقي في مواجهة الحشد الشعبي. ويشطح به الخيال شوطاً بعيداً ليتصور بانه وبهذه الحالة فسيكون بميسور القوات المسلحة القيام بانقلاب عسكري على غرار ما سماه بالانقلاب الذي جرى في مصر عام 2013 في مصر و2019 في السودان. ومن نافل القول إن هذه الذهنية تلغي تماما إرادة وتطلعات الشعوب، وتنطلق في تحليلها من نظرية المؤامرة والحسابات الخاصة.