أحمد الناجي
- 5 -
تبدأ خطوة العمل الأولى من حيث تكون غرفته في الطابق الرابع، من المكان الصغير بمساحته والواهن بضيائه، ولكنه حافل بأسرار السينما ومكنونات الكتابة،
وينطلق من محطة اختيار عديد من الاشخاص لتشكيل طاقم من التقنيين ذوي الخبرة والكفاءة، وهاجسه ينصب نحو انتقاء مجموعة من القادرين على خوض غمار الطوارئ، وأداء الأعمال التي يكلفهم بها على أكمل وجه، حتى وإن كان العمل يجري في ظل ظروف قاسية، وتحت ايقاع عمل متسارع. يثق بمن حوله، لاسيما أولئك الذين خاض معهم تجارب سابقة، ممن يتمتعون بروحية مبدعة وحيوية خلاقة، ففي فيلم (الدستور.. حكاية عراقية) الذي جرى تصويره في الظروف الصعبة حيث كان الأمن والأمان مفقوداً في كثير من أرجاء العراق، تظهر ميزة كونه دقيقاً في الحرص على سلامتهم، حتى في الظروف التي تدور بجانب العمل، لاسيما، عمله في "بغداد أخطر مكان على الصحفيين في العالم حينها" على حد قوله (69)، ولذلك أشار الى بعضٍ من احترازاته، منوهاً: "تكون فريق التصوير من ثمانية عشر شخصاً، وضعت خطة محكمة للانتقال الى المواقع من أجل إبقاء الفلم، ومن يعمل فيه خارج مرمى عصابات المسددين على كل شيء" (ص58). ومع ذلك كله، "كدنا نموت بسببه عشرين مرة" (ص76).
وجد ضالته في الإخراج، وهو يعتني بأفلامه من حيث الاعداد والتحضير لكافة المراحل، يقيس مجمل الخطى وفق مقاسات الإبداع، فيضع خطة كاملة لتفاصيل التنفيذ، ويفيدنا بقوله: "وضعنا السيناريو على الطاولة، وزعنا محاوره ومهماته حسب الاختصاصات" (ص57). يتلفت الى كل الجهات، ويأخذ مداه في البحث والاستقصاء، ويستودع كل ما يتعلق بالعمل في مخطط فوق الورق بشكل دقيق ومدروس، ولا يستسيغ الارتجال، "كان الورق سيد الموقف" (ص39)، منوها: أنه "أستخدم الورق في كل شئ، فأنا لا أستطيع الانتقال من التفكير الى التنفيذ دون المرور بالورق" (ص135).
يحمل بداخله ثقة عالية بالنفس، مثابر يحب العمل شغفاً ومتعة، لا يعرف شئ أسمه عطلة نهاية الأسبوع أو الإجازة السنوية، ويؤكد لنا في هذ الشأن، بقوله: "وأني لست محباً للشغل فحسب بل مدمن عليه" (ص34). يجيد التعامل مع أدواته، وقد يستنجد بالآخرين من التقنيين وذوي الاختصاص، اعماله المهجوسة بالسرعة والاتقان تحتاج الى منفذين من طينة الكوماندوز، "وهو في مقدمتهم، صاحب خدمة طويلة في عمليات الإنزال خلف الخطوط الأمامية للإنتاج" (ص192).
يتصوّر الفيلم قبل تنفيذه من البداية الى النهاية، لأنه يمتلك تنوعاً في الحساسية الفنية، بقوى إدراكية واعية، وتفكيره ينطوي على الأشياء العميقة، وله عينان منفتحتان على سعة العالم، يحسب بدقة متناهية وقت كل مفردة من مفردات اشتغالاته، وخطوات عمله، وهو صاحب مخيلة طليقة بلا سقف، ويبقى طيلة فترة التحضير مشدوداً يتأمل يفكر يغرق في الأحلام الخلاقة، وأثناء طقس الكتابة يستجدي حاسة التخيّل، وأنامله تتراقص تملأ بياضات الأوراق، وهي تتمايل وفق بصيرة العقل، تتشوف وتبصر بعين المخيلة الإبداعية، يلاحق الأحلام يشخبط يخط يرسم يكتب، تندلق أفكاره على الورق، ويفشي نوفل لنا بعضاً من بواطن وأسرار تجربته العملية في هذه المرحلة، حين يقول: "ما أنقذني هو التخيل الصرف للعمل بشكله النهائي" (ص45). ولا يغيب عن باله، حين يذكرنا منوهاً: بأن "هناك مسافة بين ما تتخيل وما تجد في الواقع، تدخّل قدر ما لديك من طاقة لتقرب الواقع الى خيالك" (ص117).