لطفية الدليمي
(مارتن سكورسيزي) عبقري سينمائي لاأظنّ أن هناك من يشكّك في عبقريته المشهودة . قد نختلف على بعض تفاصيل موضوعاته السينمائية ؛ لكنه يبقى علامة كبرى في تأريخ الفن السينمائي.
أسوق هذه التنويهة كمقدمة للتعليق على أحدث أفلامه (الإيرلندي The Irishman) الذي رأى فيه الكثيرون تحفة سينمائية على كل المستويات: إخراجاً وإنتاجاً وطاقماً أدائياً متمرّساً عظيم القدرات وموسيقى ومؤثرات بصرية يتمّ إستخدامها للمرة الأولى في الفن السينمائي.
لاأحبّ الأفلام الهوليودية ذات الميزانيات المتضخمة : هذا أحد القوانين السينمائية التي تشكلت لديّ بعد تأريخ طويل من المتابعة والمشاهدة والقراءة ؛ إذ يبدو أشبه بحقيقة ثابتة أن المخرج الذي يضخّم المال الإنتاجي سيجنح - بالضرورة - إلى المبالغة في الإستعراضات المشهدية (أعمال ال Show) في محاولة منه لإقناع المشاهدين - فضلاً عن الجهة الإنتاجية - أنّ ثمة مايسوّغ حجم الأموال التي صُرفت على الفلم ، وبالتالي فإنّ الجهد الإخراجي بأكمله سينصرف إلى هذه الألعاب عوضاً عن تناول الأفكار المؤثرة بذاتها ، ويحضرني كأمثلة تطبيقية فلمان أراهما علامتين مميزتين في تأريخ السينما: الأول هو فلم ( آيريس IRIS ) عن حياة الفيلسوفة الروائية آيريس مردوخ، والثاني فلم (قبل شروق الشمس BEFORE SUNRISE)؛ إذ أنهما فلمان غير باذخين إنتاجياً، لكنهما مميزان بوفرة الحوارات الفكرية والفلسفية الممتعة والأسلوب الإخراجي الساحر لإجتذاب المشاهد والإستحواذ على حواسه بعيداً عن المهرجانات المشهدية . ماذا يمكننا أن نتوقّع إذن من فيلم يصنعه (سكورسيزي) المعتاد على المطوّلات الفلمية -التي تتجاوز الساعات الثلاث غالباً- ، وبخاصة إذا ماعلمنا أنّ ميزانية الفلم تمّت مضاعفتها مرتين لتغطية الأجور الباهظة لنجوم من حيتان السينما أمثال روبرت دي نيرو و آل باتشينو؟
قد يبدو تمهيدي هذا إشارة إلى عدم إعجابي بفيلم (الإيرلندي). أبداً، ليس هذا ماأسعى للحديث عنه . صحيحٌ أنّ (سكورسيزي) صار بمثابة متعهّد أبدي لإخراج الأفلام الخاصة بعالم المافيات والرؤوس الكبيرة المهيمنة فيه ؛ لكنه يطرح في كلّ مرة جانباً من هذا العالم مغايرا للجوانب التي قدمها في أفلامه الأخرى ، وهذه هي سمة تفرده الإخراجي . إنّ مايميّز (سكورسيزي) عن مخرجي أفلام الأفكار هو أنه يدفع بالمشاهد إلى اقتناص الفكرة ( التي تكون في العادة فكرة وحيدة لافيضاً من الأفكار) بعد ثلاث ساعات من متابعة المشهديات السينمائية المصنوعة بحِرَفية عالية.سكورسيزي بهذا لايُعدّ صانع أفكار خالصة بقدر ماهو لاعب ماهر يجيد التلاعب بالمجال البصري ويدفع المتلقي للتفكّر في ثيمة فلسفية محدّدة.
إنّ كلّ ماسعى (سكورسيزي) لتمريره للمشاهدين بعد ثلاث ساعات ونيّف من المشتبكات المشهدية والتداخلات الزمنية هو ماتقوله وضعية البطل (روبرت دي نيرو)، الوحيد المهمل في دار المسنين والذي يطلب من إبنته النافرة منه أن تترك الباب مفتوحاً بعد مغادرتها ، فهو يخشى البقاء وحيداً مع أشباح أولئك الذين استقرت رصاصاته في رؤوسهم . أية نهاية بائسة ومريرة!! هل ثمة في الحياة مايسوّغ أن ينتهي المرء هذه النهاية البشعة وهو يتهامس مع أشباح؟
كم تمنيت وأنا أتابع الفيلم أن يشاهده أعضاء المافيات العراقية التي تتحكّم بمصائر شعبنا ، حينها سيعلمون أية نهاية مروعة تنتظرهم، هذا إذا أتيح لهم أصلاً أن يكملوا ماتبقى من حياتهم في مصحات ؛ لكني موقنة أن هذه ( الرفاهية ) لن تكون متاحة لهم أبداً.