علي الياسري
لا شك أن نواه باومباخ كمخرج يؤمن بشكل كبير في مقولة شكسبير (ما الدنيا إلا مسرح كبير، وكل الرجال والنساء ما هم إلا ممثلون على هذا المسرح.)
فيلمه (قصة زواج) انعكاس حقيقي للطبيعة الدرامية الاصيلة التي تشكلها سيرة العيش كأفراد ضمن نطاق المؤسسة الاجتماعية الاولى (الاسرة). فالانسان كائن درامي تمثل أحاسيسه نقاط الشروع الاساس لكل الفعل اللاحق من تعبيرات الكينونة الادمية. لذلك يفتتح فيلمه على خشبة المسرح.
ملامح الحكاية في الفيلم تتشكل على ثوابت مسرحية تتعزز مع سير زمن العرض حتى تقف عند النهاية حيث تتجسد صورة هرم فريتاغ الدرامي للعمل المسرحي ما بين مقدمة وحدث صاعد ثم ذروة يليها الحدث النازل فالخاتمة. لكن التوهج الحقيقي يتجلى من خلال تأثيرات مسرح ستانسلافسكي التي تطغى بشكل كبير على صورة وطبيعة حوار ونمط أداء الممثلين. كل التقنيات التي وظفها ستانسلافسكي كأسلوب يربط فيه الحياة الواقعية للمجتمع الانساني بمنصة الابداع المسرحية تتعزز ماثلة يتماهى فيها تشارلي ونيكول في إلغاء الحد الفاصل بين الواقع والخيال. ينجح باومباخ في تجذير كل ذلك معتمدا طاقة الكوميديا اللحظوية وتفاعلات الوعي الجواني لدفع الشخصية الفنان نحو خشبة المسرح الحياتي بكل طاقة دوافع المقاومة ورد الفعل. لينتج عن كل ذلك، الصدام بين الأهداف الذي بحث عنه ستانسلافسكي بمسرحه مابين الفعل الرئيسي ورد الفعل حيث المسار المؤدي للنشاط الفني المبتغى.
تشكلت (قصة زواج) منذ البداية على طبيعة الفعل كمحرك أساس مسرحياً لما هو قادم من أحداث. لذلك كانت نيكول ترتقي على عاتق الرجل في لقطة اولى تتطلع فيها نحو أفق عيش مختلف، تمتلك فيه ناصية إبداعها. شعورياً لايفقد الفيلم الحب بل يضج به، لكنه حب متنوع. فبين حب الآخر وحب الذات وشعور الأبوة وإحساس الامومة وشغف الطموح تتأسس طبيعة الصراع. صراع يتجمد فيه الشعور لبرهة تحت وطأة حرب قضائية أنساق إليها الطرفان دون إرادة حقيقية، ليصبحوا مع الوقت تحت رحمة انتهازية مقيتة يمارسها المحامون غرضها الاساس اكبر مكاسب مالية على انقاض عائلة كانت متقبلة لحياتها رغم كل شيء.
يتتبع سيناريو (قصة زواج) تطور البناء الدرامي وفق معمار يمثل فيه المكان عنصر أساس يتحكم في تصاعد النسق، وسواء كان هذا المكان فضاء مدينة أو تضاريس منزل، ترتقي فيه التفاصيل التي تملأ التكوين عناصر تعبيرية الى تشكيل القوة الدافعة لمسار الحدث نحو صورة جمالية ثرية. فكوريغراف العرض الاخير لنيكول في نيويورك كان يشي بصرياً بصوتها القادم بقوة للسيطرة على مسرح الحكاية في مكان اخر وهو مدينتها الأم. وما بدى لتشارلي كبطل رواية الحياة لعائلته سعياً مستميتاً ولو بالانتقال نحو لوس انجلوس لحفظ تماسك الاسرة، بطريقة أو بأخرى اضحى شكوكا ومخاوف وقيود غير مألوفة له سابقاً، حتى تلك الذروة في المشهد بعد رحيل المقيمة القضائية عندما يسقط فيها على الأرض مضرجاً بدمائه النازفة من يده، مكتشفاً حقيقة أعظم مخاوفه تتجسد، حيث يقر بالهزيمة وفقده لحضانة ابنه ولكن قبل ذلك نيكول التي ارتكز عليها كل كيانه الانساني والفني، وما ظهور شاشة سوداء إلا تعبير عن نزول ستارة ختام العرض المسرحي لقصة الزواج. هذه الخسارة تشكل دافعه القادم للبناء بشجاعة على واقعه الجديد حتى وإن بدى فيه كشبح أب في حياة ابنه وزوجته السابقة كما في المشهد قبل الاخير من الفيلم.
يقول المخرج هوارد هوكس (لكي يكون الفيلم جيدا، يجب ان يحتوي على ثلاثة مشاهد عظيمة، وان يخلو من اي مشهد سيء.) في فيلم باومباخ سنرصد العديد من المشاهد الجيدة بالخصوص النصف الثاني حيث العديد منها، والتي حاول المخرج ان يمنحها بعداً مسرحياً يوحي من خلاله تحول تشارلي لبطل العرض وإن نيكول هي المخرجة. مسرحية حياة لا يدخر فيها الزوجان أي جهد للفوز بالصراع على حضانة الطفل. ففي مشهد المحكمة يتبلور انطباع صادم عن صورة الشرخ الذي يمكن أن يحدثه المحامون بدفوعاتهم في تحطيم الأواصر العاطفية والروابط العائلية بالكشف عن سلوكيات وأحاديث عفوية يومية في علاقة الزوجين، لاتحتمل من الصواب والخطأ إلا ما تقدمه الحياة بفعلها اليومي كنمط عيش إنساني.
التصاعد الدرامي الذي ينميه مشهد المحاكمة سيبلغ قمته في المشهد التالي حيث ذروة الحكاية وصورة الفيلم الرئيسة. فالمكان-المنزل- صار خشبة مسرح يقدم فيه الاثنان فصل حياتهما الأخير والاصدق أداءً، ينعكس فيه واقعهما حقائق يتصاعد حدثها من قوة ذاكرة انفعالية يتناسب توهجهاً طردياً مع طبيعة التجربة الخلاقة كما يقول ستانسلافسكي، الى اللحظة الختامية حين يجثو الزوج معترفا بفشله وهو يرثي قصة زواجه المنطفئ. لقد نجح المخرج في إمساك هذه اللحظات المشحونة بينهما بالتنوع المحسوب لنوع اللقطة وطبيعتها وتوقيتها، بل إنه كان فطنا في زيادة زخم المونتاج أو تخفيفه لحساب مراكمة ايقاع عاطفي يعكس دواخل الشخصيتين، قبل ان يخلُص لراهنهم المرير حيث يختم بلقطة متوسطة يمسك فيها الزوج عند قدمي زوجته باكيا ضمن فضاء منزل فارغ لم يبقى فيه من صور حياتهم السابقة أي أثر على الجدران، ليس هناك سوى ضربة حطمت جدار العائلة. يواصل باومباخ صياغته السردية المميزة حين يردف هذا المشهد بأخر يحمل الكثير من التعبير البصري، سامحاً للموسيقى في أن تدلف لحس المتلقي وهي تؤسس لمحاولة تشارلي المستميتة الأخيرة للحصول على حق حضانة ابنه.
يتوازن المخرج بين شخصياته لحد التفاصيل الدقيقة التي تشكل إطارات تعريفها، خصوصاً وأنه كتب السيناريو بناء على تجريته الشخصية في الطلاق من زوجته بالاضافة الى هوامش علاقة والديه المطلقين والتي تناولها مسبقا في فيلمه (الحبار والحوت). كصانع يحافظ على مسافة بينه وبين الانطباعات المتشكلة لدى المشاهد، ساعيا نحو إقامة توازن حكائي يمنح المتلقي القدرة على فهم وإدراك دوافع الشخوص ومضامين قصة الفيلم. أمر يتعزز بمشهد للمحامية نورا تؤديه لورا ديرن ببراعة طارحاً من خلاله نظرة أنثوية اجتماعية معاصرة لفلسفة دور الأم والاب في الحياة الاسرية.
لم ينجح باومباخ في كتابة سيناريو بجودة عالية بل إنه تفوق هذه المرة بصرياً في التعبير عن كل تفاصيل نصه السينمائي بتكوينات لافتة، يبرز فيها تأثير سينما إنغمار برغمان عليه ولكن وفق رؤيته الفنية الخاصة حيث يتجلى ذلك بالعديد من المشاهد المحاكية لأفلام مثل (برسونا ومشاهد من الزواج وفاني وأليكساندر)، كما أن انعكاسات برغمان عليه تبرز من خلال الطبيعة المسرحية للفيلم، خصوصاً وأن المخرج السويدي كان من كبار مخرجي المسرح في بلاده. بالإضافة طبعاً الى التدفق العاطفي لمختلف المشاعر التي تطبع سمات شخصياته.
يمكن لفيلم (قصة زواج) أن يحتفي بالعديد من الأشياء التي نجح في تقديمها ومنها الاداءات الممتازة لسكارليت جوهانسون وآدم درايفر، لكن أهم طروحاته هو درس التوازن في طبيعة العلاقات الانسانية مابين إحساس وواجب حياتي، يمنح العيش المشترك قابلية الاستمرار.