ستار كاووش
كنتُ منشغلاً بتحضير مجموعة جديدة من اللوحات، وفجأة إنكسرت الكماشة الصغيرة التي اسحب بها كانفاس الرسم لتثبيته على الفريمات، احترتُ كثيراً بهذا الأمر،
فحاجتي شديدة لأكمال تثبيت الكانفاس، وفي ذات الوقت لا أستطيع شراء واحدة جديدة بسبب عطلة نهاية الأسبوع، لذا لم يكن لديَّ حل آنذاك، سوى الاتصال بصديقتي تريس التي تسكن في قرية راونن القريبة من قريتي آنسن المنعزلة وسط الريف. وهكذا عصبتُ شعري الذي كان طويلاً بشريط أحمر، وإنطلقت نحوها بدراجتي الهوائية الزرقاء بعد أن اتصلت بها هاتفياً. قطعت الطريق الذي تحاذيه أشجار البلوط العالية وتعزله عن حقول الذرة الواسعة التي أمتدت على الجانبين، وبعد نصف ساعة كنت هناك، ففتحتُ الباب الصغير الواطئ لسياج الحديقة الخلفية للمنزل، ودخلتُ لأفاجأ بعشرِ نساء تقريباً، أعمارهن تقترب من الأربعين أو تتعدى ذلك قليلاً، يرتدينَ ملابس غريبة وملونة ذكرتني بالهيبيز،وقد شَكَّلْنَ حلقة وسط حديقة تريس، بعد أن جلسنَ علـى مقاعد بدون مساند، هي في الحقيقة ليست كراسي بل جذوع اشجار قطعت لتصبح أماكن للجلوس، ويمسكن بآلات (موسيقية) غريبة وغير مألوفة، فواحدة تمسك بقرعتين صغيرتين جافتين لهما شكل الساعة الرملية وتهزهما لتنطلق خرخشة البذور التي بداخلها مكونة إيقاعاً معيناً، وأخرى تمسك بحجرين تضربهما ببعض برفق ليعلو صوت ما، وثالثة تضع طبلة غريبة الشكل بين ساقيها وتضربها بيد واحدة ثم تعيد ذلك بكلتا يديها لتتعالـي نوع من الدمدمة، والرابعة تمسك علبة معدنية صغيرة مفلطحة وتحركها بـإقاع ثابت، لتطلق صوتاً أقرب الى وشوشة أحجار صغيرة خُلِطَتْ مع رمل، وهكذا تواءمت الباقيات مع أدوات غريبة تطلق نغمات غير متوقعة. وما ان دخلتُ الحديقة حتى توقفن عن العزف ونهضن مرحبات بي بطريقة مفاجئة وغير متوقعة، ثم أشرن لي كي آخذ مكاني للجلوس وسطهن في مقعد فارغ، ولم تمض لحظات حتى ناولتني احداهن قرعتين جافتين، وانا بدوري اخذت أهزهما بمرح وبهجة، وقد علت وجهي إبتسامة ماكرة (على طريقة إيدي ميرفي) ليبدأ الجميع بالعزف على الآلات الغريبة.
وبينما نحن على هذا الحال وسط البهجة التي ملأت المكان الذي لا يحده جيران، طَلَّتْ تريس من الجانب البعيد للحديقة حيث يقع مرسمها، وهي تمسك بكماشة تثبيت الكانفاس، وما أن شاهدت المشهد حتى غرقت في الضحك وهي تحاول تعديل نظارتها، ولم تكف عن ذلك إلا بعد توقف العزف الغريب، فنهضتُ ووضعتُ القرعتين في مكان جلوسي وإتجهتُ نحوها كي آخذ الكماشة وسط ذهول النساء الهيبيات اللواتي تبادلن النظرات، لتتساءل إحداهن مخاطبة تريس (أليسَ هذا هو الهندي الأحمر الذي ننتظره كي يعطينا درس اليوغا وورشة العزف؟) فأجابت تريس (لا، أنه صديقي الرسام ستار، جاء ليأخذ هذه) وهي تحرك الكماشة يميناً وشمالاً وكأنها تقلد حركات عزفهن، وهنا تعالى الضحك والتعليقات حول سهولة اندماجي السريع بينهن، فبررتُ ذلك بعفويتي وولعي بهذه الأجواء والتفاصيل، بعدها طَلِبنَ زيارة مرسمي في الأسبوع القادم إن كان هذا ممكناً، فرحبتُ بالفكرة، لكني إشترطتُ مازحاً أن يجلبن معهن آلاتهن الموسيقية غير المألوفة.
كانت تريس في تلك الايام وما زالت تحب هذه الأجواء والتفاصيل وتقيم مثل هذه اللقاءات، وبقيت طوال عشرين عاماً تلك الصديقة التي وقفت بجانبي عند حاجتي إليها، وكذلك ملأها الفرح عند نجاحي، ولم تتأخر في أي وقت وتحت أية ظروف عن إثبات ذلك. وحين إنتقلتُ وقتها من هذه القرية البعيدة وسط مقاطعة درينته الى بيت آخر، كانت أول من يزورني وهي تحمل مجموعة من أدوات المطبخ والبطانيات وقنينة فودكا، ولأنها تعرفني جيداً، أحست بحدس الصديقة القريبة بأني لا أملك نقوداً وقتها، لذا وَضَعَتْ تحت كتاب صغير على الطاولة مائة يورو كي أوفر لنفسي الطعام. وفي كل معرض جديد لي كانت تنقل لوحاتي بسيارتها الستيشن، بعدها انتقلت هي أيضاً لبيت آخر، وبدوري بقيت أتنقل من مقاطعة لأخرى، لكن تلك الصداقة والمحبة بقيت ثابتة ولم تتغير، لألتقيها في زيارتي الاخيرة لها، وهناك شعرت بأني في بيتي مع صديقة كأنها جزء من عائلتي، إنها تريس التي أحاطتني بحنو ولم تنسَ الى هذه اللحظة شرابي المفضل الذي هيئته لي مع الأكل الممزوج بالبهجة. أما أنا فقد وضعت بين يديها الكتاب الفاخر الذي صدر حول لوحاتي قائلاً: في هذا الكتاب جزء منك ومن روحك وصداقتك أيضاً، هذه الصداقة التي كانت أحد كنوزي التي حصلتُ عليها في هولندا.