د. فالح الحمـراني
على خلفية لجوء أطراف المواجهة الخطرة في المنطقة: إيران والولايات المتحدة الى التهدئة وطرح التعهدات عبر مختلف القنوات بتجنب المواجهات العسكرية، وعدم القيام بالاستفزازات الساخنة، بقى العراق في مفرده في الساحة، بعد أن انتهكت الدولتان سيادته الوطنية.
وهذه التطورات تشكل حالة خطيرة بالنسبة لمؤسسات السلطة وصناع القرار في العراق. فالعراق هو الخاسر الأول من تلك المواجهات، وعليه الآن التعامل مع النتائج. وتلوح الخيارات التي عليه تبنيها ليست سهلة، ومحفوفة بالكثير من المخاطر، بما في ذلك بمدى تنفيذ قرار خروج القوات الأجنبية ( اقرأ الأميركية) من العراق. ولم يبقّ أمام المؤسسة الحاكمة في العراق غير خيار أن تجعل العراق يواجه أميركا بمفرده ، ويتحمل تبعات النتائج الكارثية، أو البحث عن طرق دبلوماسية لتهدئة الجبهة مع واشنطن، بحيث تضمن للعراق سيادته واستقلاله ومكانته.
ربما كانت المقاربة الأكثر موضوعية هو الفصل بين قضية اعتداء الولايات المتحدة وانتهاكها سيادة العراق وبين قضية القواعد الأميركية على أراضيه مثلما تعاملت مع انتهاك ايران للسيادة العراقية، فالعلاقات بين الدول متشعبة، ومن غير الناجع وضعها في سلة واحدة. إن مؤسسات النظام لم تتعامل دبلوماسياً مع قضية انتهاكات أميركا ومن ثم إيران، حرمة سيادة العراق، وتحويلها الى مسألة دبلوماسية ساخنة، ولم تطلب من مجلس الأمن الدولي وجامعة الدول العربية، عقد جلسات استثنائية لمناقشة الانتهاكات الأميركية والإيرانية، والحصول على إدانة دولية للمعتدين، ولم تطرح على واشنطن ولا على طهران فاتورة للاعتذار علنا، وتقديم التعويضات للخسائر.
في الوقت نفسه لم تفكر المؤسسات الحاكمة بجدية في تجاوز ما فرطت به خلال الستة عشر عاما الماضية في الجانب الأمني، وبناء شبكة دفاعات جوية فاعلة، وأبقت أجواء البلاد مفتوحة، والعراق عرضة للهجمات الإسرائيلية والإيرانية والأميركية واجتياح المقاتلات التركية دورياً، أراضيه وفي الوقت الذي تشاء، وربما ستسول دول ومنظمات أخرى القيام بالهجمات لتصفيات حساباتها على أراضيه.
وتشير معظم الدراسات الى أنه وفي حال المضي بالسياسة المعتمدة حالياً، فإن العراق سيكون هو الضحية، وإن الوضع فيه مرشح للتعقيد أكثر. إن الوضع يتطلب المزيد من التصرف بعقلانية وحكمة، فالسياسة تتحمل انتهاج طرق وأساليب متنوعة في سبيل التغلب على الأزمات بعيداً عن الايدلوجيات مهما كانت صحتها. وعموماً ليس هناك شك في ضرورة إقامة علاقات حسن جوار متكافئة مع إيران، تقوم على مبدأ الشراكة والتعاون، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام كل طرف لمصالح الطرف الآخر.
وفيما لحقت العراق أضراراً جسيمة، تحركت ايران بطرق اكثر دبلوماسية " للانتقام" من أمريكا!، واكتفت في عمل عسكري ذي هدف دعائي، فمن الواضح أن الهجمات الإيرانية على القواعد الأميركية في العراق كانت رمزية في طبيعتها، دون أن تسبب أي أضرار تقريباً. علاوة على ذلك، حذرت إيران ( الجانب الأميركي) من هذه الهجمات لتفادي سقوط ضحايا بين القوات الأميركية ( ولماذا استهدفت إيران القواعد الأميركية وليس في الدول المجاورة الأخرى؟). فلم تكن المهمة هي دفع الولايات المتحدة لمزيد من التصعيد، واستناداً إلى بيان ترامب، تصرفت غالبية القوى السياسية صاحبة القرار السياسي بسرعة، وردت بشكل ما من، شأنه أن يلحق ضرراً بحلها.
ومن الأفضل لو تحققت رؤية تقرير صادر في موسكو عن أن كل هذه الخطوات الإلزامية التي يتحدث عنها ممثلو النظام في العراق تأتي من باب "الحفاظ على الوجه" ، ويرجح أن بغداد ستتبعها بخطوات دبلوماسية وتشريعية وإعلامية بحتة تسلط المزيد من الضوء عليهاً. ويلاحظ بأنه وعلى الرغم من موجة بيانات السياسيين العراقيين بالحفاظ على سيادة البلاد (ليس من الواضح سبب أهميتها الآن - هذه السيادة غير موجودة منذ الإطاحة بصدام حسين ـ الكلام للتقرير)، لن تتخذ بغداد أي خطوات عملية في هذا الاتجاه.
وينقل التقرير عن خبراء أميركيين، قولهم :أن هناك العديد من الأسباب التي ستجعل بغداد تفضل استمرار وجود القوات الأميركية في العراق. السبب الأول والرئيس هو أنه إذا غادرت الولايات المتحدة وتفقد بعض نفوذها المباشر، فإن قوات الحلفاء ستأخذ هذا المكان بسرعة. ويرى ان السلطات العراقية في نهاية المطاف، انقسمت حول هذه القضية، حيث يريد العديد من النواب الحفاظ على الدعم الأمريكي. بالنظر إلى أن 172 من أصل 329 نائباً كانوا حاضرين في تصويت 5 كانون الثاني، فإن هذا القرار بالكاد يلبي متطلبات النصاب القانوني، لأن النواب السنّة والأكراد العرب لم يكونوا حاضرين في الجلسة. وهذا كما يرى،" عامل أساس لمزيد من الانقسام إذا بدأ مشروع القانون هذا في اتخاذ ملامح عملية". وانطلاقاً من هذه الاعتبارات يستنتج إن اشتداد الانقسام بين الولايات المتحدة والعراق لن يؤدي تلقائياً إلى تقارب أكبر بين بغداد وطهران. لكن القوى الأخرى، مثل روسيا والصين، سوف تملأ الفراغ الطبيعي الذي سينشأ. وفي هذا الصدد، يستبعد التقرير أن الصين أو روسيا ستسرعان لاستبدال القوات الأميركية، فضلاً عن منطقة نفوذ إيران مقيدة بشدة ليس فقط بسبب التخندق الطائفي، ولكن في العراق أيضاً هناك ميول عابرة للانتماءات الطائفي. وان الولايات المتحدة اليوم هي المورد الرئيس للتعاون التقني العسكري والضامن الرئيس لأمن لبغداد. ناهيك عن العقوبات الأميركية على صادرات النفط الذي هو منتج التصدير الرئيس للعراق. وليس هذا وحسب، فعلى سبيل المثال إن العراق سيقدم على الأرجح مرة أخرى طلبا لواشنطن لكي تستبعده الولايات المتحدة من العقوبات المناهضة لإيران، من أجل الاستمرار في استيراد الغاز الطبيعي الإيراني الذي يحتاجه لإنتاج الكهرباء. في هذه الأثناء طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب فكرة فرض عقوبات على العراق، رغم أنه من غير المحتمل أن تفعل الولايات المتحدة أي شيء من شأنه التأثير بشكل كبير على انخفاض إنتاج النفط العراقي. بعد كل شيء ، مع حجم 4.7 مليون برميل يومياً، فإن المملكة العربية السعودية ستكون عاجزة عن تعويضه ، وقد يؤدي ارتفاع أسعار النفط إلى ارتفاع أسعار الوقود في الولايات المتحدة، الأمر الذي من شأنه أن يخفض من مستوى شعبية الرئيس.
ويرى تقرير لمعهد الشرق في موسكو : أن إيران لن تحاول استفزاز الولايات المتحدة من خلال اتخاذ خطوة تعرض بقاءها للخطر، على سبيل المثال ، بمحاولة قتل شخصية أميركية رفيعة المستوى. بدلاً من ذلك، من المحتمل أن تحاول إيران إبقاء النزاع في مسارحها الحالية، مثل العراق. ولكن بالنظر إلى أن المليشيات العراقية المدعومة من إيران قد وعدت بردها الخاص على العملية للقضاء على سليماني ونائب زعيم حزب الله أبو مهدي المهندس، والسياسيون العراقيون المدعومون من إيران عازمون على طرد القوات الأميركية من البلاد ، فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى المزيد من العنف والتصعيد في العراق وربما في مناطق قريبة أخرى.
من الناحية التكتيكية، فإن السؤال الأكثر أهمية الآن هو كيف ستؤثر هذه الأزمة بين الولايات المتحدة وإيران على ميزان القوى في الشرق الأوسط. يبدو أنه يؤدي إلى إضعاف مواقف كل من إيران والولايات المتحدة وتعزيز مواقف اللاعبين الآخرين، بما في ذلك روسيا وتركيا.