عفاف مطر
حين نستذكر روايتي كافكا (المحاكمة) و(المتحول)، أو روايتي جورج أورويل (مزرعة الحيوانات) و(1984) ندرك فوراً أنها ليست بالروايات التي تصنف في خانة (المحلية)
ومع ذلك وصلت الى العالمية على عكس الرأي السائد بأن المحلية هي الباب الأعظم الى العالمية وبالغ البعض بوصفه بالباب الوحيد والأضمن، لكني أكاد أجزم؛ لو أن هناك سكان في المريخ لوصلتهم الروايات السابقة الذكر، فمزرعة الحيوانات تناولت الأنظمة الشمولية العالمية التي طغت الكرة الأرضية بكاملها، وكذلك روايته (1948)، أما رواية (المتحول) تناولت مأساة الإنسان في أي وكل مكان، رواية انسانية بنكهة عالمية،. لكن هذا لا يحدث كثيراً، هي محاولات نادرة استطاعت العبور الى العالمية من دون المرور على جسر المحلية. لا أقول إنه يجب على الكتّاب أن يبتعدوا أو يتجاهلوا مشاكل مجتمعاتهم، لا بل على العكس، لكن ما الضير في قولبة بعض هذه المشاكل والقضايا بقالب عالمي، وإلا سنكون أمام مثلية أدبية، كل كاتب يروي وينحاز الى (محليته) إذ بمراجعة بسيطة للروايات الفائزة بالبوكر العالمية –النسخة العربية- على سبيل المثال رواية (فرانكشتاين في بغداد) للروائي احمد السعداوي من العراق والتي فازت بالجائزة 2014، وفي السنة نفسها ترشحت للقائمة القصيرة الروائية العراقية انعام كجه جي عن روايتها (طشاري) كلتا الروايتان تحدثتا عن الوضع العراقي بعد 2003، ورواية (الطلياني) لشكري المبخوت التي نالت الجائزة في 2015، لم تتجاوز المجتمع التونسي والتحديات التي كان يواجهها في وبعد السنوات الأخيرة من حكم بورقيبة، والكاتب الفلسطيني ربعي المدهون في روايته (مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة) يتضح من العنوان أن الرواية تتناول القضية الفلسطينية حصراً...الخ وإذا كانت المثلية الجنسية مرفوضة في المجتمعات المحافظة والمتحررة أيضاً، إلا أن المثلية الأدبية أي انحياز واندماج الكاتب مع مشاكل مجتمعه فقط يضيّق أفق القارئ، وأنا أفهم تماماً أن ايجاد فكرة رواية للتحدث عن شأن أنساني عام هي أكبر صعوبة قد يجدها أي كاتب، فليس من السهل ايجاد فكرة مثل فكرة الحشرة في رواية (المتحول) أو استعمال الحيوانات رموزاً لمذاهب سياسية وفكرية كما في رواية (مزرعة الحيوانات)، لكنه ليس بالأمر المستحيل، والدليل أنه تكرر، رواية مثل (حياة باي) التي فازت بالبوكر البريطانية العالمية لايمكن وصفها بالمحلية، على الرغم من ذكر أماكن محددة تقع في الهند، لكنها تناولت قضية انسانية تماماً ممكن أن يكون أي بلد مسرحاً لوقائعها، كذلك (الشيخ والبحر) لهمنغواي من الممكن أن يكون أي بحر في أي بلد مسرحاً لوقائعها، والشيخ من الممكن أن يكون من أي جنسية. حقاً هذه الروايات التي تحمل الهم الانساني وتستعرضه بطريقة ذكية لا يمكن وصفها بكلمات، وكلمة العبقرية لا تفي حق كتّابها أبداً. لكني وحسب علمي لم يتمكن كاتب عربي من تجاوز جبل المحلية الذي تضاخم أكثر بعد فوز نجيب محفوظ بالنوبيل عن روايته (أولاد حارتنا) حتى غطى سمائهم تماماً، على الرغم من أن هذه الراوية العربية الوحيدة التي تنسجم مع أي مجتمع في الشرق أو الغرب، إلا ان الكتّاب ظلوا متأكدين أن وراء فوز محفوظ بالنوبيل يعود الى محليته عبر ثلاثيته (بين القصرين- قصر الشوق- السكرية) والتي اختارها اتحاد كتاب العرب كأفضل رواية عربية، وربما لا أبالغ إن قلت إن رواية (أبناء الجبلاوي) لابراهيم فرغلي كانت تمحكاً بأولاد حارتنا لنجيب محفوظ، لاسيّما أن الجبلاوي وأبنائه هم أبطال رواية (أولاد حارتنا)، أما بداية رواية أبناء الجبلاوي لابرهيم فرغلي تبدأ بالتساؤل على لسان البطل عن سر اختفاء كتب نجيب محفوظ! ويُشبه اختفاء كتبه باندثار الفراعنة أو قارة أنترتيكا. في رأيي هذه المثلية الادبية لا بدّ من كسرها بشكل أو بآخر. هذه المثلية التي اختارها الأدباء العرب بقصد أو بغير قصد انعكست تماماً على القارئ العربي، إذ نجدها وربما بطريقة لا شعورية قد انتقلت اليهم، والدليل على ذلك حين يكتب أي كاتب رواية سرعان ما نجد الكثير من القراء يسقطون بطل الرواية على كاتبها، والامثلة التي توضح ذلك تظهر بوضوح أكثر حين يكون مؤلف الرواية (إمرأة) الكاتبتان على سبيل المثال، السورية سمر يزبك في روايتها (رائحة القرفة) والكاتبة السعودية في روايتها (ملامح) والتي تحدثتا بهما عن المجتمع النسوي السحاقي اتُهمتا صراحة بأنهما سحاقيتان وهذا لا يحدث في الغرب. فكما أن المثليين جنسياً يكون وراء شذوذهم هذا أسباب اجتماعية بالدرجة الأولى وفسيولوجية، نرى أن هذه الاسباب ذاتها وراء المثلية الأدبية التي يقع ضحيتها الكاتب العربي بجنسيه الذكوري والانثوي، والا لما خرج علينا –رضينا أم لم نرضَ- ما يسمى بالأدب النسائي كردة فعل تجاه الأدب الذكوري الذي يطرح كل مواضيعه من زاوية نظر ذكورية تماماً وحتى المحاولات القليلة من قبل أدباء ذكور مثل ابراهيم فرغلي في روايته ابناء الجبلاوي الذي تناول فيها أيضا موضوع السحاق لم تكن كافية، إذ لم تتعدَ سوى محاولات فقيرة لاختراق عالم المرأة، على عكس المرأة التي تناولت هذا الموضوع وعلى رأسهن صبا الحرز في روايتها (الآخرون) التي تسرد فيها حكاية فتاة سحاقية من السعودية بشكل رائع جداً غني بالتفاصيل عجزت عنه باقي الكاتبات والكتَّاب في تحليل ووصف الشخصية السحاقية، إلى درجة أنها اتهمت بأنها سيرة ذاتية حقيقية للكاتبة، لا سيما أن الكاتبة مجهولة ولم يصدر لها أي نتاج أدبي آخر! في حين كتب باستحياء بعض الكتّاب عن هذه الشخصية -السحاقية- ولكن بشكل لا يرتقي الى العمل الفني الحقيقي، في المقابل لا توجد كاتبة كتبت عن عالم اللواط الذكوري. وبذلك الكاتب العربي الذي ينحاز الى مشاكل وطنه وجنسه ذكراً كان أم أنثى هو بالتأكيد مثلييٌّ أدبي. يقول جان بول سارتر (الاخرون هم الجحيم).