TOP

جريدة المدى > عام > قبل خسارة الحرية

قبل خسارة الحرية

نشر في: 18 يناير, 2020: 07:54 م

ياسين طه حافظ

وإنْ كان الموضوع فلسفياً أكثر مما هو صحفي سريع وبعدد محدود من الكلمات، لكني أردت الأثر الاجتماعي منه وسأظل ضمن حدوده.

لم نكن امتلكنا، أو خضعنا، للشرط الاخلاقي قناعةً بفكر أو رؤية مثلى للحياة. فقد كانت "أخلاقياتنا" نتائج ملقَّنة باساليب عنفية. معنى هذا تلقيناها عنفاً لا فكراً. فهي وصلتنا عبر نواهٍ ومحاذير وتهديد بعواقب سيئة ندفع أثمانها راحةً أو مالاً أو عقوبات جسدية أو بسوء مصير. وما تلقيناه أعرافاً اجتماعية، مدنياً أو عشائرياً،إنما يقع ضمن هذا إلا ما ندر، بالنسبة لناسٍ "نادرين" غالباً ما يكونون متأملين أو حكماء. بمعنى خارجين عن النسق أو المألوف.

معذرةً إذا قلت أن ما وراء الاخلاق لم يكن في الأساس عقلانياً. ولا أرى الفضيلة تأسست عقلانياً أكثر من تأسيسها اجتماعياً, تدعمها أو تديمها الممارسة العملية . معنى كلامي أيضاً، أن الجدوى أو الفائدة مصدر مؤسس للفضيلة. وهذا اكدته المجتمعات وأدامته بالتفكير العملي والمنطق الاجتماعي وتبادل المصالح. فالتفكير العقلي بهذا المنظور، ليس أخلاقياً. والجوانب الأخلاقية بأسلوب حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية إنما مصدرها تطور منطقي لتجاربنا ولسلوكنا العملي وهي بعد هذا هي شكل من أشكال التقدم الاجتماعي.

هذه النقطة الاخيرة تأخذنا الى استحالة أو صعوبة نمو فضائل أصيلة في البدائية والتخلف. معنى هذا، وهنا إشارة الى واقع، الارتدادات الحاصلة عن الفضيلة أو عن المدى الأخلاقي ، إنما هي بقايا انتماء الى البدائية أو التخلف أو الى ما قبل التطور الذي صار الآن اخلاقياً.

هنا "أخلاقياً" تعني إلزامياً عملياً أو مادياً لما كان تجربةً. ولهذا صار التفكير منذ أكثر من قرن، أن الحرية هي في التحرر من السلوك الاجتماعي، من المفضل اجتماعياً الى المفضل فردياً لأن "الفردي" أقرب الى العقلي من "الاجتماعي".

ثمة مسألة لم تحظَ بدرس كاف، تلك هي أن اللغة في أوجهها الثقافية تؤدي أدواراً مزدوجات. هي غالباً تتبنى مفردات ملتبسة المعنى أو متعددة الدلالة. فمثلاً هذا إنسان "صالح". ما معنى صالح هنا ؟ لمن صلاحه؟ لأنه ملتزم بالواجبات الدينية مثلاً؟ أو الانضباطية الاجتماعية؟ إذاً غيره يكون مخالفه أي "غير صالح". بهذا التوصيف نحن فرضنا على الأخير عقوبة مبكرة، لها علاقة بسلامه الاجتماعي! ومنحنا الاول تزكية و "مقبولية" تحميه أو تنفعه.

ولهذه الحالة مفردات أخرى شبيهة مثل "كاذب"، "خائن" ، "مدرك" وحتى "عاقل" نفسها. هذه كلها تصبح مفردات تؤدي مهمات مطلوبة. هي تفقد حياديتها المعجمية والادبية لتتحول الى أدوات عنفية. ولهذا فأولى المشاكل أو المتاعب التي تواجه الفلسفة الاخلاقية، هي افتقادها الى لغة متفق عليها، الى مفردات يرتضيها ويقرها العقل إقراراً نهائياً ويتفق عليها الأدب الاجتماعي. وهنا ننسحب مضطرين نتيجة عنف، لنواجه أكبر إشكال مشتبك غير مستقر وتطبيقاته.

ولهذا ضاعف الدين قواه الاصلاحية التهذيبية حتى صارت عنفاً واضحاً. صارت ردعاً . فالاشارة الى الأبعد كانت كافية لكن الآن حضرت قوتان عنفيتان الأولى الإغراء ببديل والثانية من تلك ومن الاساس نفسه، بخسارة كل شيء وبالألم والعذاب أي بالجحيم!

ومثلما كانت هذه وسائل وطرائق تنظيم حياة وتهذيب اجتماعي كانت ايضا سبباً للتمردات الفردية. فالتفكير العملي الفردي كان على مدى الازمنة لا يميل الى السلوك الاجتماعي، بل يخالفه. هو يضيق ذرعاً بالمنع ثم يضيق ذرعا بالتهديد ولا نكون دقيقين اذا قلنا بأن هذه التمردات اجتماعية حسب وليست عقلية اساساً..

وفي أحوال متقاطعة مثل هذه، تجد التوفيقية قبولاً وتصبح الوسطية من بعد مبدأً أخلاقياً. أقول أخلاقياً أولاً وذات جدوى اجتماعية ثانياً. هي حل لإشكال بين تضادين. تضادان، منظور من أعلى وآخر من الممارسة والاضطراب. في الحياة تضادات عديدة واختلاف اتجاهات ونحن لكي لا نخسر انتهينا الى ان نتوافق على السائد منها.

كان فعل الوعي أن يتسع التفكير العملي، أن تتسع حرية الفرد ليتضمن التفكير كيف نشعر وكيف نتصرف. وهنا صارت المواجهة مباشرة جداً مع الخضوع أو الائتلاف بكل خطواته العنفية. النتيجة التي أكدتها لنا مثل هذه الاحتدامات هي أن الانسان "الحر" يبقى محاصَراً وأن الحضورات العقلانية، للأسف ليست هي التي تفرض النماذج الاخلاقية ولكن تستحدثها شروط العيش أو التوافق الاجتماعي. وهو " تفكير" وتوافق نفعيان بالتأكيد! وما يجب اللا ننساه هو حقيقة "تداعي واقعية عالمنا". وهو تداعٍ أخلاقي، لا بمعنى تهذيبي قدر ما هو بمعنى اتساع وتنوع التمردات الفردية وأن العرف أو النظام ، مع هذه التمردات، صار يعني" التابو" أيضاً. ولذلك أرى طلائع الحرية، لأسباب عديدة، ستنضج كطلائع حرية فردية أكثر مما هي حرية بالمعنى الذي تنهض به حركات التحرر والتقدم والاجتماعي . حركات التحرر الاجتماعي ترتبط دائماً بالخبز و شروط العيش وضمان سلام العالم الذي هو سلامهم أيضاً...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

انتقائية باختين والثقافة الشعبية
عام

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

د. نادية هناوي يُعدُّ ميخائيل باختين واحدا من النقاد الغربيين المهتمين بدراسة السرد الأوروبي الشعبي، لكنه في كتابه (أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وأبان عصر النهضة) يعد الأول الذي خص أعمال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram