علي النجار.. مالموــ السويد
في اعتقادي أن الجسد لا يأخذ شكله، هيئته، ملامحه البارزة، إلا من هيئة الرأس. وهكذا، كما خارطته هي التي تشي بهيئته، نحافته أو ضخامته.
نعومته أو خشونته. صلافته أو رقته. فلو أخذنا(مثلاً) أية صورة شخصية ودعكنا الرأس منها، هل يبقى الجسد في هذه الصورة محافظاً على هيئته المعهودة، كما هو، أو يتحول الى مجرد دمية، أو فزاعة فقدت بوصلتها. لنقم بلعبة بصرية أخرى. لنأخذ قناعاً مطاطياً لوجه ونضغطه، فهل باستطاعة هذا القناع المضغوط أن يؤدي غرضه الأصلي كرأس بديل أو تمويهي.
نحن هنا نحاول أن نجعل من هذه الأفعال مجرد لعبة استغمائية من أجل أن نستشف قدرة الفعل التشويهي على اضمار فعل مضاد. الفن من ضمن أفعال ثقافية أخرى، يستطيع أن يفعل هذه المعجزة ويدخلنا في متاهاتها. من هذه الاعجازات ما يفعله الرسم من الاتيان بأفعال تشخيصية تمارس سطوتها التعبيرية على الجسد والرأس منه، وتبني الغازاً جديدة قابلة لفك شفرتها المخفية خلف طبقات الوعي واللاوعي العميقة.
نعم للرأس أهميته من الجذع البشري وغالباً ما يحظى بكونه أبرز علامة دالة وكاشفة لملامح الجسد العامة. وضوحه هو ميزته التي لا تحتمل عطباً. بما أننا نبحث عن الخرائط الظاهرية للجسد، فليس سوى الرأس من يدلنا على خطوطه العانية الأكثر وضوحاً. لنفرش ملامحه على طاولة التشريح الحسي التي غالباً ما يلعب الأنف دوراً واضحاً في حفر كينونتها الشخصية كونه يتوسط مساحة الوجه، وكثيرة هي نعوته. مثلما أسطورة الفم ودلالاته الوجدانية والجنسية. ولنلتفت لسطوة العينين التي فهي النافذة المفتوحة على العالم الأكثر استنفارا من غيرها من الملامح. خارطة كهذه تجمع كل هذه الأقطاب الحسية المثيرة التي من الممكن ان يوظفها الفنان في تجاربه الإبداعية لإنتاج فعل فني مؤثر. ربما يخطر بالبال أن كل ذلك لا يعني للرسام التقليدي التشخيصي شيئا. نعم هي كذلك بالنسبة لحرفة الرسم التقليدية في محاولتها لتثبيت الملامح بشكل آلي، ضمن وسائل تنفيذ واقعية سطحية لا تهتم بسبر غور الملامح وما تخفيه من انعكاسات تعبيرية. لكن يبقى الأمر مختلفاً لمختبر الابداع المتحرك، لا الثابت.
حسنا من هنا نجد سطوة الأفعال التعبيرية. فحتى لو ألغى الرسام ملامح الوجه بتغطيتها بأي لون، فهدا لا يعني غالبا عدم الإيحاء بكينونتها. إذ ربما يتساوى هذا الإلغاء وحفر الملامح بمهارة قصوى(كما في الرسوم الحفرية التعبيرية للفنانة الألمانية كيث كولويتز الصارمة). ليس كمقارنه اسلوبية، بل كمقدرة ايحائية مضمرة. فالنفي(الغاء الملامح) هنا غالبا ما يؤدي الى التأكيد لا الامحاء، وما خلف الفعل، فعل مغاير يمحي مساحة الفراغ، بدلالات ايحائية متعددة لقسمات وجوه لا متناهية. حسنا(كولويتز) تفجر خطوط القسمات حفرياً حد إبراز فاجعتها أو انسانيتها المفرطة، بدون إلحاق أي تشويه بملامحها الأصلية. هي صانعة صور شخصية من طراز رفيع. الفنانة العراقية(نوال السعدون) هي صانعة صور شخصية أيضا. رغم كونها متخيلة، لكنها من طراز مختلف. إن كان للحرب العالمية الثانية من أثر على رسوم(كولو يتز). رسوم نوال هي الأخرى تعمدت بنار الهجرة ومأسي حروب بلدها العراق المتكررة. هي المغتربة بعمر مبكر، بل تكاد الغربة أن تلتهمها.
في ثنائية صراع الروح والجسد، النار الداخلية هي من صنعت رسوم وجوه نوال، بما نالها من هذه الشظايا. هذا واضح في رسوم رؤوسها البشرية بعين واحدة. سواء امحاء للأخرى، أو طمسا لمعالمها تحت دوامة الخطوط. بما يعني أن ثمة اختلال مقصود لفقد توازنها. اختلال يبرز ضمن عتمة ملونتها أو حياديتها أحيانا، بحدة أكثر. رؤوس متوحدة مقصية ضمن فراغ يحتويها ويكاد يهيمن على الكثير من مساحة محيطها. فهي إذ ترسم أو تنحت الرأس لوحده أحيانا وبهذه التشوهات المقصودة. وكتكثيف لخطابها التعبيري. بالرغم من أن رسومها للجسم هي الأخرى تحمل نفس الشحنة المثقلة بالتشوهات الخلقية التي تؤكد نوازع القلق المتجذرة شكليا والمحالة للحالة التي تعيشها الفنانة كخطاب اعتراضي ملتبس، لكنه مفعم بنوازعه الانسانية المنتهكة.
هناك فنانون لم يتعبوا أو يملون من رسم أنفسهم. الهولندي فان كوخ رسم نفسه، مأساته الشخصية التي هي مأساة الآخرين في نفس الوقت. الايرلندي(فرانسس بيكون) رسم نفسه المتمثلة في اشباهه من البشر.(نولده) الألماني رسم يسوعه الخاص، وهكذا. نوال السعدون هي الأخرى رسمت ذاتها الثانية التي تجذرت في مسيرة حياتها الداخلية صنو لواقع أوقعها بمطباته الغير سوية. حياة ملغومة بالفقد، بالضياع، بالألم الحاد حد اليأس في فترة من الفترات. وما مشخصاتها المستعرة قلقا وعدم توازن الا بعض من انزياحات كل هذا الحمل الثقيل. إن تكن إنساناً وسط اللا إنسانية، فهذا معناه واحد من اثنين، أما أن تكون مع الرهط، وإما أن تكون رافضاً. والرفض في هذه الحالة يكلفك الكثير، وقد ناء حمل نوال به. لذلك كان لا واقع الحياة المضطربة عامل مساعد لخلق اللا توازن في رسوماتها. وهو ما تنوء به مشخصاتها هذه. فجانب الوجه لا يشبه جانبه الآخر. كما لا توازن الرأس مع جسده. القلق ينخر هذا الرؤوس والأجساد في محيطها الكفافي الكابوسي. فأي كابوس أنتجها.
هناك رأس مقدس، كما رأس الحسين، أو رأس يوحنا المعمدان. رغم فظاعة فعل الحز، إلا ان ملامحها عبر كل رسومها القديمة والحديثة تبقى سليمة خاشعة بأوضح ما يكون. رؤوس نوال السعدون لم تتعرض للحز، لكنها رؤوس منفصمة عن واقعها الإنساني، منفصلة عن محيطها. قابعة منزوية. ملامح مجروحة. لا تمتلك من وجودها سوى أثلام متشضية. فأية محنة هذه هي التي تنوء بها. فهل فقدت نوال وهي ابنة بيئة خضراء ومياه جارفة، الحس الرومانسي الذي لا يزال يحتضن الكثير من المنجز التشكيلي العراقي. وهل بات الواقع(خارجا) جارحا لهذا الحد. هل فقدت الصحبة البهجة، هل فقدت الحاضن الرحيم، هل فقدت تاريخها الأول. أنا، وكمراقب لردة الفعل(فنيا) لا أحزر كل ذلك. لكن ربما هي لا تزال تتعايش وكل تلك الفقدانات. حالها، حال العديد من الفنانات العراقيات المغتربات مبكرا. والتي لعب انتمائهم الإنساني المعارض دوراً ما فيما هن عليه من نستولوجيا مغالية تداعياتها الوجدانية، لا تخلف إلا جرحاً عميقاً في النفس. بعد استحالة مد الجسور والحلم المتنقل عبر رحلة الاغتراب وجغرافياتها المتحولة.
تبدو هذه الرسوم(الرؤوس) كأنها مرسومة بحد السكين، خطوط ومساحات مجروحة. ربما لكون الفنانة تدربت كثيرا على تقنية الكرافك ووسائله المعدنية والحبرية وغيرها التي تضفي على العمل مسحة مغايرة للرسم القماشي. من هنا ربما علينا أن ننظر لرسوماتها كرسومات كرافيكية منفذة بأدوات مختلفة. ما يهمنا فيها، هو محافظتها على ملمس ومشهدية العمل الكرافيكي الذي يخدم دلالاتها العميقة بفعل فني مواز، وتأكيد الفعل الحفري الذي يجعلها غالبا نافرة عن سطحها مظهرياً. مما يضفي عليها ميزة تعبيرية حادة تفي بغرض الفنانة في إيصال حدة انفعالها الموازي لحدة انفعال الأفعال المعبر عنها.
اذ تعترف نوال السعدون بأن(هناك ذاكرة تستعرض نفسها في لحظات وجيزة وانتقالات نفسية تقول شيء ما قبل أن تنطق اللوحة) لتحيلنا لمخزونها النفسي الذي يتنفس على سطح اللوحة. اللا إرادية اعتقدها هي سماتها. لكنها لا إرادة سطحية، لا إرادية الظنون، لا، لا إرادية جذر الفعل. فالفعل عندها مترسب في القاع. لكنه ليس عصيا على البوح. بل ما أسهل بوحه وهو يرتطم على السطح محدثا صخبه. صخب هذه الرسوم يصفعنا مباشرة وبدون استئذان. عنف ظاهر يخل بفعل التوازن ومقاييسه الاستطيقية. يبعثر المألوف لصالح الهدم أو التصدع. فما دام التصدع حادث في ذاكرة الفنان، فلا بد من معادل فني له. هنا جغرافية الروح معروضة للعلن عبر مسيرة شاقة، تشظت الأجساد والملامح خلالها وبات من العسير تجاوز ردة فعلها. لم يعد فنان اليوم يعيش انفعالاته كما كان قبل مائة عام. وقليل من استثمر هذه الحالة إيجابيا. وهذا ما يحسب لنوال إيجابا، لا سلبا. فبدل تحطم الإرادة وخراب الجسد والفعل. استطاعت أن توظف هذا الفعل العاصف أعمالا حفرية في تفككها أعمال ملغزة. رسوم تصفعنا، تثيرنا، وتجسد بعض من شظايا وجود كاد أن يودي بأحلامنا. أو هو كذلك في العديد من مفاصله في بلد لا نزال ننظر وتنظر اليه كحلم مستحيل، كما تراه في عين حدسها الذي لا يزال مجروحا.
فكل الأفعال التي بثتها في رسومها هذه تقطن الرأس .. وفي رؤوس الآخرين الذين يحيطونها !.
رسوم أفعال تزاحم الوقع بلاواقعيتها المضطربة حد نزف الجرح. لفنانة لم تجد غير وسيلتها التعبيرية المتوفرة منفذا للخلاص.