ستار كاووش
جاءت كاتيا صاحبة البيت الذي استأجرته منها وسط مدينة كييف، دون موعد مسبق، لتبدأ بالصراخ والعويل وهي تشير الى المخدة التي رسمتُ عليها وحولت غطائها الخارجي الـى كانفاس للرسم،
نعم لقد رسمت على مخدتها، أعترف بهذه الفعلة، لذلك ربما كانت محقة حين طلبت مني مغادرة البيت فوراً وهي تلعن الفن والفنانين، ولم تهدأ إنتفاضتها إلا بعد أن اعتذرتُ منها وقدمت لها كأساً من بقايا الفودكا التي نامت بقعر القنينة بعد سهرة الليلة الماضية، وفوق ذلك وعداً أكيداً بشراء شرشف جديد للمخدة. وبالفعل ذهبت في اليوم التالي الى سوق للعاديّات وحصلت على شرشف آخر مقابل بضعة كبيكات. كان عليَّ الأهتمام أكثر بموجودات البيت، حيث كانت العادة في كييف هي تأجير البيت بثمن زهيد وبكل محتوياته، لكن على المستأجر أن يحافظ على الأثاث والأدوات بقدر المستطاع.
قبل ذلك اليوم بفترة، كنت أقف أمام مخزن بيع المواد الفنية التابع لما يسمى (بيت الفنانين)، ومعي قليل من النقود، لغرض شراء بعض الكانفاس، لكن بعد أن شاهدت المرأة التي تعمل هناك، ما معي من نقود، قالت (نقودك لا تكفي لشراء الكانفاس يابني) وأردفت بعد أن شعرت بحاجتي لذلك (إسمع، لديَّ الكثير من القصاصات الصغيرة جداً، وهي فضلات، تبقى عادة بعد قص قطع الكانفاس وتثبيتها علـى الفريمات، سأعطيك إياها مجاناً فربما تفيدك بشيء)، كانت هدية تلك البابوشكا رائعة رغم غرابة حجوم تلك القماشات وصغرها. لكن بعد فترة نَفَدَتْ هذه القطع غريبة الأشكال، فلم أرَ أمامي سوى مخدتي التي تعود لصاحبة البيت، وهكذا هيئتها بطلاء أولي ورسمتُ عليها قروي وزوجته، ولم أحسب حساب كاتيا التي حضرت فيما بعد مثل القضاء المستعجل.
بعد هذه الحادثة ببضعة أيام إتصل بي صديقي سمير العتابي الذي كان يعيش هو وزوجته في بيتهم الريفي على أطراف كييف، واتفقنا على زيارته لي لرؤية لوحاتي الجديدة وقضاء بعض الوقت معي، كان سمير شيوعياً نبيلاً، مليئاً بالكرم والمحبة، ومبدعاً درس السينما في معهد الفنون الجميلة، وهو قد سبقني بسنوات طويلة في العيش بمدينة كييف، ومدَّ لي يد العون بقلب جنوبي مفعم بالطيبة والبساطة. حضر سمير في الموعد، وأنا أتابع حقيبته الثقيلة التي أنزلها من على كتفه بصعوبة ووضعها على الأرض، لتصدر منها رنَّة خفيفة لإصطدام زجاج، عندها إطمأنيت بعد أن أدركتُ ان هناك اكثر من زجاجة فودكا، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل أخرج من باطن الحقيبة قطعة دائرية كبيرة من الخبز الروسي الأسمر وكمية من المقانق وعلبتي سجائر وبعض السمك المدخن، ياله من يوم بهيج مع هذه الكنوز التي وصلت رائحتها الى جاري العجوز يوري الذي بدأ يتنحنح في البلكون، فلم استطع تجاهله في مثل هذه المناسبة، هو الذي يقاسمني أشياء كثيرة بما فيها السمك الذي يصطاده في النهر القريب.
ونحن على هذا الحال إنتبه سمير الى الأعمال وبدأنا الحديث عن الرسم، فأعجبته اللوحة الأخيرة وتَعَلَّقَ بصره بها، عندها أخبرته بأنها مرسومة على شرشف مخدة، وحكيتُ له حكاية (الخزايكا) التي حاولت طردي من البيت، فضحك وهو يقول (أبو ستيره ما تصير لك جارة!) ليزداد تعلقه أكثر باللوحة التي أنزلتها من مكانها وغلفتها بجريدة قديمة ووضعتها كهدية له في حقيبته الواسعة.
مرَّتْ السنوات، وقد خرجَ سمير من أوكرانيا، وخرجتُ بعده بفترة، لنلتقي بمصادفة عجيبة في محطة قطار لاهاي في هولندا، ونستعيد تلك الأيام بكل محبة.
وهكذا عادت اللقاءات والزيارات بيننا في بقعة أخرى من هذا العالم، فيما بَقَتْ تلك اللوحة في كييف، حتى استطاع في احدى زياراته الى أوكرانيا أن يجلبها معه ويعلقها على جدران بيته في مدينة لاهاي، ويتصل بي يخبرني بأن اللوحة (المخدة) وصلت الى هولندا، فشعرت بأن صديقاً عزيزاً قد وصل بعد غياب طويل، وطلبت منه تصويرها لي، ثم زرته لألتقي بزوجته الرائعة وبناته الجميلات، وأقف أمام اللوحة وأنا أبتسم وإستعيد أيام كييف بعد أكثر من عشرين سنة.