TOP

جريدة المدى > عام > المسلّات مدونات اليومي

المسلّات مدونات اليومي

نشر في: 20 يناير, 2020: 06:56 م

ناجح المعموري

سبع مدونات سردية ، هي كل المجموعة الصادرة للقاص عبد الستار البيضاني رسمت حدوداً للسرد ، واختلفت عما كان مألوفاً وشائقاً في الكتابة ، وأراد لها أن تكون نصوصاً ،

لأن البيضاني حررها من ضغط البناء النمطي ، والتقليدي المألوف بالكتابة القصصية وفتح أمامها نوافذ لم توفر للنصوص تنوعات النصي الذي دائماً ما يخلخل فنية القصة ، لذا تبدّت مدونات المسلات موزعة بين المألوف السردي وبين النصي الخجل .

العنونة مثيرة ، أراد من خلالها إضفاء دلالتها على الظاهرة العامة ، متجاوزاً الذاتية الضيقة ، التي تعبر عن الشخصية . والمسلة إعلان واسع وطاغٍ ، حافظ لظواهر كبيرة في الحياة ، لم تكن معنية بشخص واحد ، بل تجاوزت حدوده ، لجماعات واسعة ، هذا الملمح هو الذي جعلها نصوصاً ، مضافاً لذلك التحرر من الأفكار والأحداث السائدة واختراق حضورها بالاختلاف . وجعل القاص عبد الستار البيضاني من المسلة رمزاً ناظماً للموضوع السردي ، وأضفى عليها حضوراً بصرياً . لأن العنونة تفتح المعنى الرمزي لها ، وهو عميق ، أضفى البطرياركية والفحولة على كارثة الحرب . لأنها فعل فحولي ، اتخذ قرار اشعالها الرجال ، وحتى يلصق البيضاني تهمة إعلان الحرب على الفحولة اسماها مسلة ، لأن التاريخ القديم ، عرف المسلات رمزاً أسطورياً مبكراً وشاهداً على نوع من التحول في الحياة باتجاه سلطة البطرياركية والاشهار عن مجد باق ، ومثال ذلك مسلة حمورابي ، الدال على السلطة الثقافية ، القادرة على اخضاع الجماعات وإرغامها على قبول التفاصيل المكونة لمروية عامة ، تخلصت من واحدية الشخص المألوف في السرد القصصي . وربما يثار سؤال مهم حول وجود خلخلة لسيادة الشخصية ، مثلما هو في نص " مسلة الحب " المعبرة بذكاء عن غربة المقاتل وفقدانه للآخر ، الأكثر حميمة وهو العشيقة أو الزوجة .

تبدو هذه الموضوعة الخاصة عامة جداً ، لتشارك من كان موجوداً بالحرب فيها . ووجدت بأن " مسلة الحرب " ممتلكة طاقة إشهار اللعنة الأزلية وقد تفرعت عن عدد من المسلات .

اللعنة الأسطورية الأولى التي اقترفها قابيل بعد أن رفض الإله الأب استلام تقديمه وتحمس لعطايا هابيل . ابتكر ما لم يعرف قبله " مسلة قابيل " سردية للجميع ولكل الامكنة في العالم ، هي أكثر المسلات حضوراً وتعريفاً بالدموي والإبادة . وتفاصيل الحرب التي تهيكلت عليها هذه السردية ، هي يوميات المقاتل وقد تبدّت بطاقتها السيرّية ، الكاشفة عن حياة الراوي وسط الحرب . وهذا ما اضاءته مسلة الاصدقاء / ومسلة الحب .

الحرب خزان مسلات ، كل ظاهرة فيها هي مسلة ، لأنها ليست واحدة ، بل عامة ، وللحرب سيروراتها المفضية لفضاء البشاعة . قابيل ، صانع الموت الاول " سقطت ورقة التين التي تستر عورته ، ولم ــ يكترث ــ وهذه اول مرة في التاريخ البشري يفقد الانسان حياءه ... شهوة الموت اقوى من الحياة وتلك مسلة اخرى ص 12//

" لقد ارهقتنا الحروب الخاسرة " صرخة الكائن / والجماعات ، حطب الحرب واستمرار اشتعال نارها . لعنة على قابيل الذي أسكت الأصوات ، وجعل صوت الموت والتدمير والحرائق . أما مسلة الاصدقاء والتعارف وكثرة المرويات بين الاصدقاء ، واستحقت مسلة للإعلان عن تفاصيلها . وأهمها حضوراً لعبة كرة القدم . والتناظر الرمزي مهم في هذه المروية ، اختصرت كثيراً الدلائل وذهبت نحو ساحة كرة القدم وجغرافية الحرب ، والنتائج التي تسفر عنها كرة القدم مماثلة لما تتبدّى عنه الحرب ، خسارة / هزيمة / فوز ، انتصار / في الحرب النصر خسارة .

استهلال " مسلة الأصدقاء " مركز رسم صورة عيانية امسكت بالموضوعة السردية ذات البلاغة القوية ، صديقان تشاركا معاً بلعبة كرة القدم ، وعاشا معاً تفاصيل لعبة الحرب / كلما تعانق الكرة شباك المرمى اتذكرك ، تنفتح عيناك في جوارحي مثل غابة خضراء تتزحزح في عمق السراب ........ حينذاك ، وبعد أن تفرك الكرة المقذوفة أحزان اللاعبين . وأفراحهم على شباك المرمى وتسقط في أسفل الزاوية منهكة ، أراك وجلاً تتسلق خيطاً رفيعاً من كأبتي وتتربع على قلبي .. عيناك الخضراوان تغرورقان بالدمع الذي يترجرح فوقها مثل السراب ... اكره فيك حنينك الذي يذكرني بضعف النساء العاطفي . بدا كلامي جارحاً أنا أردته كذلك ، فوحشة السواتر لا تتحمل كل هذه الرقة . ص 19//

ــ " الحرب لعبت بنا طوبة " 

تنظفها وانت مطرق الرأس ! .... ازيح شعرك على وجنتك واصطنع خشونة وصلابة لا امتلكها .

ــ ها أنا ذاهب لأنهاء الحرب 

ــ وتتركني هنا .

لكي لا تأتي ورائي .. سأنهي .. سأنهي " المباراة " كما كنت تنهيها بأهدافك الجميلة 

ــ تذكر إنك الآن كرة ولست رعباً .... ربما سألحق بك / ص 20//

تتضح للقراءة التداخلات بين كرة القدم وبين الحرب .. كلاهما لعبتان تحققان أهدافاً جميلة ، لكنها ــ الحرب ــ أهداف تدمير وإبادة غادر لاعبو كرة القدم ملاعبهم واقتيدوا الى ساحات الحرب ومعاينة الاصدقاء تقرهم الصواريخ ولم يتركوا غير حكاياتهم ومسودات رسائل . غادروا جياعاً وظلت جياعهم التي تحدثت عنهن " مسلة الحرب " .

تميزت هذه السردية الجميلة بالتماثل بين كرة القدم والحرب التي دنت الحرب منها وجعلتها مثيلاً للعبة بسرديات فضيعة ، يتم فيها تبادل الأعضاء ، كي يتحدى الكائن دمارات الحرب ويبقى حياً " ربما تنتظرني نتبادل أعضاءنا المعطوبة لكي نبقى أحياء ليست هذه هي صداقة الحرب ؟ فكيف اذا كانت صداقتنا موصولة بمخلفات السلام التي نتذكرها مثل الايقونات الاثرية ص 31//

يلتقط البيضاني نهاية مسلة الاصدقاء بحتمية انتظار سقوط الصديق ... ترى هل ننتظرك .

" مسلة الحب " أكثر المسلات وجعاً وحزناً ، لأنها تعطل سيرورة الحياة وتوقف ثنائية الحب وتبادل المشاعر وتصير ضداً لانعاش الخصوبة وتجددها . والمرأة أكثر الكائنات تأثراً بالحرب ، ربما يقول أحدنا بأن الموت حاصد للشباب ومعطل لهم . هذا صحيح ، لكن المرأة تظل حيّة وتواجه موت الجسد في كل لحظة ، لأن حياتها كائنة بالثنائي والغياب يجعلها حضوراً معطلاً أو معروضاً مذلاً ومهاناً ، تضطر أن تكون قابلة بكل إشارة أو دعوة ضمنية ، لأنها لا تقوى على ديمومة العطش جسد المرأة عطش ويريد رطوبة ، وعطلت الحرب زوجها ميتاً او اسيراً وتضطر ان تبحث عن آلية تبلل جسدها وتشبع جوعاً آنياً . " مسلة الحب " سردها وجع متوتر بالحزن والألم ، انطوت على صور سردية شفافة نابضة بالرمزية الموظفة للحياتي واليومي ، من اجل ارسال رسالة واضحة متحدية الحرب ولعنتها . الحرب قاسية ، عطلت الساقية وجف ماؤها ، مثلما تعطل ماء المرأة التي اصطحبها المقاتل عاشقاً لحظة ، لأنها ــ المرأة ــ تعشق من تصطاد ويتمتعان معاً . أخذهما فرش لها صحيفة الحرب وأخبارها وأهان قابليها وتمددت عليها وابتدأ حربه من نوع آخر ، ولم يكتفِ ، بل أدار مسلتها وفعل أيضاً .

قالت : 

ــ مع ذلك سيكون ذلك أفضل من أن أموت دونك ...

ومن ثم تطلقين حجلتك الحزينة .

ــ سأموت سريعاً لو عشت من دونك !

ــ وإذا انتهت الحرب .

ــ وما الفرق .

ــ عندها سيعود زوجك الى البيت .

المسلات ، نصوص سردية مستلة من عمق الوجع العراقي وخزانات الالم والحزن الذي عشناه وظل في الذاكرة مورثاً لمن سيأتي ، إنها سرديات تستحق القراءة والفحص وكشف تنوع شعرياتها ورمزياتها العميقة ذات الطاقة البليغة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram