يرى أن العمارة تزدهر إذا ازدهر التعليم وعمّ السلام من دون منغصات دينية عشائرية أو سياسية
حاوره/ علاء المفرجي
المعماري معاذ الآلوسي ولد (1938) في أحد أحياء بغداد القديمة التاريخية، درس العمارة في «جامعة الشرق الأوسط» في أنقرة التركية.
وفي عام 1961، عاد إلى بغداد، بعد جولات إلى إيطاليا وألمانيا، ليلتق في «مكتب الاستشاري العراقي»، الذ يعد أول من اسس لنهج العمارة العراقية بمشاريعه، ورجالاته الذي عملوا فيه، لكنه مالبث أن غادره إلى بيروت عام 1974، ليؤسس هناك مكتب «الدراسات الفنية»، ولاحقاً مكتب «الآلوسي ومشاركوه» في قبرص، التي أقام فيها. ثم اختار الإقامة في بيروت في الوقت الذي إنشغل فيه اللبنانيون في الحرب الأهلية التي مزّقت البلد على مدى 15 عاماً، واشتغل في الفن والهندسة. وفي هذه الفترة انتبهت مدن الخليج الى أعماله المعمارية، فكانت من حصيلتها: «مشروع المصرف المركزي»، و«البنك العربي» و«سفارة الإمارات العربية المتحدة»، والسفارة القطرية و«مركز صلالة الثقافي» في سلطنة عمان، و«البنك العربي الأفريقي» و«مطبعة دار القبس» و«مركز الدراسات المصرفية» في الكويت، و«السفارة الكويتية» في البحرين.
ظلت بغداد تشغله بوصفها المدينة التي نشأ فيها وأحبها، فكتب عنها ثلاثيته المهمة، والتي نبهت متابعيه الى أنهم أمام سارد كبير وموهوب كما في العمارة: «نوستوس ـــ حكاية شارع في بغداد» الذي عرض فيه مشروعه المعماري الكبير «شارع حيفا» وسط بغداد، و«توبوس ـ حكاية زمان ومكان» أو «وثيقة التملك العقاري» (طابو) لبغداد بوصفها مكاناً متحضراً، و«ذروموس ــ حكاية مهنة» . والثلاثية بمثابة سيرة حياتية ومهنية عن الآلوسي.
(المدى) التقت به في هذا الحوار لتلقي الضوء على تجربة مهمة في العمارة العراقية:
هناك تصور عام وهذا ما أكدته الروائية الصديقة لطفية الدليمي في إحدى مقالاتها عنك، من أن الممارسة المعمارية نوعٌ من الطقوس الكهنوتية المقفلة في إطار جماعة نخبوية، ستجعل منهم فيما بعد يتسيّدون هذه (الوظيفة)... ما تعليقك.؟
- لا حقاً اكتشفت أنا متفق تماماً مع السيدة الأديبة الكريمة. الناقدة الموسوعة. لطفية الدليمي، عند قراءة كتابتها عني، دُهشت وتشوشت، سيدتي وضعتني في موقع قد لا استحقه. كنت اعتقد أن موقعي يقتصر مع الشباب المعماري المحروم المحاصر. كونهم، وعليهم أن يكونوا مهيئين لإستيعاب المعرفة وهي غير متوفرة لهم، وأنا وقد كوفئت بترحيبهم بما كتبت، باعترافهم. مخاطبتي لهم بكتبي الثلاث قد يعينهم كثيراً في فهم مسلكهم المعماري. جميع كتبي حاولت فيها أن أتبسط وأنزل من برج العمارة العاجي. من التعجرف الذي تسبغه عليَ مهنة العمارة.
بعد لأيٍ وبعد أن قرأت كتبها الأخيرة" سيدات زحل" و"عشاق وفونوغراف وأزمنة". حقاً إنهما موسوعة مترابطة، فيما آلت إليها مدينتنا بغداد، و ما كان نمط المعيشة فيها. نستذكرها في كتاباتنا. من هنا هي سمتها الكهنوتية. وعندي هو التوحّد مع نمط عيش بغدادي أصيل، أنا في الاغتراب، وأتصرف مع الأغراب ببغدادية أصيلة. جميلة ومقتدرة، ولا اعتقد يمكنني المقاومة من دون التبغدد الأصيل المكتسب بالرضاعة.
من هنا تأتي النخبوية، نبل في التصرف، وبقيم مع الأسف زال معظمها، فزال معها نمط العيش السليم، والتمسك بالقيم ركن من أركان مهنة العمارة الحقة. إنْ فُقدت، عمّت الوسطية المباشرة المشوهة والضحلة، هي لا عمارة، سمها ماشئت. "تجارة، سمسرة ؟"
تصور معمار بدون هوية ، مشوش ، بدون فكر، غير منتمٍ، بدون مسار معلوم. بيده حاسوب خالي من التذكر. قيم مادية جشعة صادمة بعيدة عن كل ما هو انساني، لا يعرف الجميل من القبيح. ولا يفقه الجيد من الغث. يعرف المربح الرخيص ، على حساب الأصالة والهوية.
كهنوتي. فروسية. انتماء. ريادة. وأكثر نعم كلها. إنه نمط عيش راق. يرى الحسن والجيد. يرى الطيبة والأصالة. هل رأيت في جميع العالم الحر وغير الحر. قائد سياسي معماري يمارس عمله عمارة وسياسة. أبداً هذا حقل ونمط حياتي يجبره على ترك حياة الجمال والإنسانية والمسالمة، مهنتي ولا أقول مهنتنا، بناء في بناء وتخطيط كله لسعادة الإنسان، أجمع وليس لإنسان على حساب إنسان آخر. " هتلر تمنى العمارة وأبدع، لكن تركها لـ"شبير" وذهب بالاتجاه المعاكس.
ثمة إنحسار في الثقافة المعمارية، وهو انعكاس لما يحدث في الخطاب الثقافي، حيث غياب الطبقة الوسطى ومبدعيها، هل ترى في هذا سبباً للانحسار المريع؟
- نعم الانحسار الثقافي لا يقتصر على التثاقف المعماري فقط. إنه عام شامل في مختلف أوجه الحياة الثقافية. ساد الجهل والتخلف، ومع الحروب والحصار زالت القيم الأصيلة. إذن انتكاسة بمستوى نكبة على الصعيد العام. الجهل مستعمر غدار. محتل يحارب كل ما هو أصيل.
اذن الثقافة والعمارة وهي الرائدة تنكفئ وتصبح بحكم العدو الأخطر للسلطة الحاكمة. صعب ترويضها. نعم والمهم فيها، إنها لا تهادن العهد على التشويه أو الإزالة، ونحن تقريباً في نصف قرن نزيل موروثنا، ألم نحرق مكتبات؟، ومتاحف ونفقد موروثاً أصيلاً لا يُثمن؟. وفي العشرين سنة الأخيرة بدون بناء ولو تعليمي بسيط. لا نحتاجها. لدينا مقرات ومحلات إيمانية، شفيعة لعامة الناس.
المثقف مطارد. دكتاتورية شعبية عشائرية من نوع آخر، حكمها نار جهنم في الأرض والآخرة. أو حوريات على الأرض والآخرة.
الثقافة الجمعية هي من بنات الطبقة المتوسطة، حوربنا جميعاً منذ خمسة عقود بعد فورة الستينيات والسبعينيات الرائدة. أجبرونا على الهروب الى الأمام، نحن لنا حاجاتنا من المواكبة والتحرر. خفنا من الصدأ والفقدان. فهربنا. نعم حافظنا على عراق ثقافي، وفقدنا وطناً ومواطنة. متشائمون كنا.
ربما أنا شخصياً كنت على خطأ كبير في تشاؤمي. وإذا بعراق كامن، ذي زخم هادر، يعج بالأخضر واليابس، حِراك يريد إعادة الوطن، بشباب وشابات مدن لم تعرف السعادة ولا العيش الرغيد. ثبّتوا أصالة هذا الوطن، يحاربون في سبيل استعادته. " استعادوه" وأعادوا لنا افتخارنا. طبقة متوسطة شاغلة في التأسيس الجديد. تعيد تفاخرنا. ستنتعش الطبقة المتوسطة، شعب متجدد في عراق قديم، لا ذلك المُطالَب به، "عراق جديد" المقولب بالرجعية والتخلّف. وبالشعارات البالية الكاذبة أصلاً ، تُصاغ كما يطلبها الساسة.
تبعاً للسؤال السابق، ما الذي نحتاجه لإشاعة الوعي بأهمية وخطورة العمارة باعتبار ذلك يسهم في إثراء ثقافة الإنسان؟
- العيب في منطقتنا. عدم رعايتنا للإنسان. مدارسنا إنْ وجدت، فهي ليس للتثقيف أو للتربية الصحيحة. لم نربِ الإنسان، دروسنا بالية، مناهجنا متخلّفة لا تواكب الزمن.
تيه وضياع، العمارة لا تغرد بمعزل عن المجموع، هي لخدمة المجموع. تنهض وتتميز عندما يعم التعليم ولو بأبسط حالاته، ولنا مثال ما حدث في العراق. عند ما ارتفع مستوى التعليم، تأسست مدارس في الفن والشعر والعمارة والمسرح لها خصوصية عراقية. زالت في أول امتحان لها، لأن الإنسان المجموع كان في واد ولم يكسب و لم يواكب المعرفة التي عمّت على النخبة المتوسطة فقط. لذا سقطنا في أول تجاربنا.
تزدهر العمارة إذا ازدهر التعليم وعمّ السلام، فاسحاً المجال للتعلم والتثاقف، بحرية دون منغصات دينية عشائرية أو سياسية. أو فئوية. تحرر بدون أطر وقوالب بالية. مواكِبة للتمدن الإنساني السائد. تعليم مشارك وليس ناقلاً. كما يحدث الآن في مدن الملح السائل.
لاشك أن التراث هو المجال الأوحد لفضاء الممارسة المعمارية.. الى أي مدى تجلى ذلك في أعمال الآلوسي، في ضرورة الحفاظ على نماذج من التراث المعماري وإمكانية توظيفه؟
- الأصالة، الهوية في الممارسة المعمارية تميّز المعمار عن ذلك المقلد الناقل للسهل المباشر المتداول. إن عمارتي هي هويتي. أعرف نفسي، ترعرعي أولا، كي أنتج ما يميّزني عن غيري، هل أنا قاصر من المواكبة بشخصيتي. نعم إذا لم اكتشف أصلي وفصلي، جامعتي و كتبي تساعدني على التعرّف من خلال المقارنة وفهم الآخر، لذا من هنا يتولد النهج، نمط الفكر السائد فهم الذات، بيئة تواجدي، جني مكاني، مشيمة مدينتي، الجرجاني يسميها البطانة ويفرقها عن بطانة الغير.
من هنا جاء احترامي للموروث وعمل السلف، أقف احتراماً وإجلالا لما توصلوا إليه من عمارة فذة، صاحبة هوية، نسيج مديني وحضري منتمٍ وأصيل، قابل للتطوير والتجديد أي الاستلهام منه من دون تشويه وخيانة وتنغيل.
استلهم الموروث، أدرسه جيداً أتعلم منه أصيغ فكراً وفلسفةً معاصرة، أعيد صياغته، بحيث يدغدغ تلافيف المقابل وأسعده، و بالتالي يُسعدني أيضاً.
لا أُسعد أو أُدغدغ أخي ابن المكان ذاته، بأبراج زجاجية وبصحون طائرة وقوازيغ تعانق السماوات السبع. نقل رخيص من بيئة مغايرة مهجنة. منها نحصل على مدن الصدفة مدن الملح، حسب قول استاذي وصديقي طيب الذكر عبد الرحمن منيف.
مدن مصيبتها ومصيبتنا هي أصبحت علامات التحضّر، وهي تمسخ مدن مثل مكة وكربلاء والنجف وأربيل، والآتي أعظم في بغداد والموصل ، في بغداد يتولد دايناصور في الجادرية. ستقسم الأراضي الخضراء، ويتسابق الجشع مع الشراهة الاستهلاكية. ترتفع الزجاجيات نتسابق مع سنغافورة ودبي بالزجاج الأصم. وخاصة في الصيف الحار، ونترك الطابوق الذي يخاطبنا شعراً، ويجمل أرضنا منذ آلاف السنين.
من اعتقادي الراسخ بثراء مهنتي المعتق لآلاف السنين. عليّ محاولة أن أكون أميناً على ما ورثت، فكراً وتصرفاً، في نمط عيش متميّز.
أنا احترم دجلة واستعمله لما له من إرث. مصائب وأتراح حروب وشعر ورسوم وقرابين . " نعيج الماء" النورس في بلادي غير شكل أتذكره وأحن اليه بعد ثلاثين سنة من الاغتراب. هل يشبه دجلة نهراً آخر. الفرات في جزيرة آلوس جنة موعودة.
أنتَ مطلع بالتأكيد على التشويه الذي نال العمارة العراقية والبناء والذي تجاوز الإطار المهني ليشكل همّاً ثقافياً بل ووطنياً .. باعتبار ذلك تشويهاً للذاكرة الجمعية.. ما الذي تقوله عن هذا؟؟
- كيف لا يحدث التشويه، والحاكم يكره مدينته، في الكاظمية أزيلت جلها، في كربلاء أضيف للأضرحة سقوف في صحون الأضرحة المفتوحة. وفي النجف تمدد ضريح الامام علي ليصل بحر النجف، حولوه الى معلم سياحي وسوق للترياق. ألم يسب المنتخب صاحب الفضيلة" الحزب" في المجلس النيابي، يسب أبو جعفر المنصور لتشييده بغداد، وهارون الرشيد لإعمارها، هذا صاحب الفضيلة يُعاد انتخابه على الرغم من هذا الكلام. بهذا النهج سوف تزول مدننا وموروثنا. لذا الكراهية والحقد لا يحافظ على الأصيل ولا حتى على البشر.
تعاني مدننا من آفة. في بغداد والبصرة بحجم القنبلة الهايدروجينية. نعم الترييف آفة تسلطت على المناطق الحضرية. عدم العناية بإنسان الريف، والتركيز على المراكز الحضرية. ولتوفر البنى التحتية. وللبحث على فرص العمل السهلة. هاجر الريفي مع حيواناته وتقاليده الى المناطق الحضرية. فعاث فيها فساداً، بالطبع تتقاطع قيم الريف مع قيم المدينة. " لا ضير عندما يتبول الريفي في الحقل، بل هنا: مشكلة وكبرى عندما يتبول على عمود في شارع الرشيد.
اذن تريّفت المدن. بل تشوهت وإن لم نوقفها ستُزال، كنائس وتهبط مساجد ويرتفع الشيخ معروف الجامع القديم يحاول أن يطير معمارياً عند تجديده وبدون سبب. إنها مشكلة من بيده السلطة لا ذاكرة له. فهو لا يستحي، إذن بوسعه أن يعمل أي شيء.
المُسحة الشرقية في أعمالك، والتي تتجلى في الارتقاء بتفاصيل العمارة البغدادية، ولكن بطريقة أكاديمية .. هل عندك هي وسيلة لتحسين بيئة الإنسان، من دون التعاطي معها كوسيلة لخدمة الأثرياء مثلاً؟
- أنا أتعاطف مع المكان أينما كنت وأينما عملت، لا أستسيغ الجلوس على الهامش. أريد أن أعرف مع ماذا ومع من أتعامل. أبحث ، أدرس، ما هي كيمياء المكان والبشر؟ الشحنات الموجبة والسالبة في المكان؟ وفي المطلوب من منهاج العمل؟ لذا أحاول أن يكتسب الناتج سيماء المكان، أن يكون جزءاً من النسق المتواجد. إنْ كان حضرياً أو غيره. أنا قد أكون مدعياً في بغداد، في جميع محاولاتي أبغي بغداديتي أو في المدينة موقع العمل، ابتغي الناتج منهم وإليهم. أنا أصلاً لا أتعامل مع بشر لا أتفاعل معهم، لا أشيد لهم. لمن لاطاقة على تحسين نمط معيشته. والمهم جداً لا أفقد حشمة انتمائي المبدئي، مثلاً، أنا لو منعت من الممارسة مدى الحياة إذا لم أصمم مبنى أمني وسجن مقر للتحقيقات، أفضل الاستقالة.
في بعض الأحيان يصعب اكتشاف الموجات الكامنة في المكان موقع العمل، لا مؤثرات فيها، مفرغة، كما حدث لي في الكونغو برازافيل، لم أتمكن من العثور على روح المكان، فجاءت أعمالي غير مرضية لي، ربما مرضية. بعضها، لهم أصحاب العمل. أعمال لا تعلن عن خصوصيتها، ولذا كما يقول الناقد الأستاذ. خالد سلطاني: خير ما شيدت هو في بغداد. نعم قد يكون. التحدي أكبر لأنه مع النفس، وكيف لا؟ وأحد مشاريع امانة العاصمة في الست نفيسة فوق دار جدي لأمّي. هنا يكمن الحساب والكتاب.
في العمارة البغدادية الخاصة. اختار ولا أقدم إلا لمن يتعاون معي. يعرفني وأعرفه، أقدر أن اخدمك؟ نعم. رفضت الكثير مسؤولي السلطة أو مشاريع معسكرات أو نصـب تمجد الخطأ.
انا انتقائي في أعمالي، نصب عيني الإنسان والإنسان فقط لا أخدم من لا استطيع خدمته. سيمائهم في وجوههم. وضمن أطر وأضعها لنفسي، أنا أتعامل مع البشر قبل الحجر، لم تغريني مشاريع الخليج، إلا القلة التي كان فيها تطوير لقابلياتي وتوسيع لمعرفتي. أفضل التعامل مع جمع من البشر. مشروع تطوير قطاعات الثورة و تخطيط صوب الكرخ. سعادة ونعمة لا توصف
الى أي مدى كنت مخلصاً ل(مدرسة بغداد للعمارة) في أساليبك التصميمية خاصة وإنك تشكّل أحد الاضلاع المهمة التي قامت عليها هذه العمارة؟
- في الستينيات عند عودتي من الدراسة. ولحسن حظي، أنا تتلمذت على يد مثقف استاذ التصميم، كاتب ومؤرخ العمارة السلجوقية والعثمانية استاذي لأربع سنين، مؤمن بالتواصل مع البيئة المتوارثة، وعند عودتي الي بغداد، شباب بغداد من مثقفيها، كانوا في تعاون فيما بينهم، يحاولون تأسيس مدرسة بغدادية في الفن والشعر والعمارة. تكتسب احترام الغير. نعم أسسوا.
التعريق في الفن والمسرح مستمر، وفي العمارة متأخر نوعاً ما إلا أني رجعت في الوقت المناسب،.
دراسة الموروث الحديث جوار سكني في الأعظمية. أبنية جامعة آل البيت ومدرسة ثانوية الاعظمية " مدرستي". أبنية حديثة مؤسسة لمدرسة بغداد في العمارة. كتبت فيها في بداية الستينيات بحث في مجلة ننار " حررتها مع صديقي ياسر " لجمعية المعماريين العراقية. . ألهمتني هذه المرحلة المتقدمة والقرارات الصائبة، مما سهل الأمور علينا في الاستلام ولنضيف، إنْ أمكن، نحن أصحاب المدرسة الباحثة عن هوية معمارية عراقية حديثة مواكبة للتمدن الإنساني، لكن كان على أنا المعاصر أن أثبت إضافاتي.. اعتبر الاستمرار في البحث والاستلهام واستكشاف ما يخاطب الفرد العراقي ، أضيف وأساهم الى ومع ما توصل إليه الإنسان من تحضّر وتمدن. . فأنا جزء من هذا الزمن والمرحلة. واجب عليَ تلبيته، لغرض تثبيت هويتي الخاصة والمشاركة من موقعي المتميز.
في ثلاثيتك (نوستوس، وتوبوس، وذروموس) إكتشفنا بعضاً من مهاراتك في السرد، فرغم أن هذه الثلاثية هي سيرة ذاتية ومهنية لرحلتك في العمارة، إلا أنها أيضاً سيرة ذاتية للمكان وللأحداث .. ما الذي يمكن أن تحدثنا عنها؟
- لغة المعمار. أينما كانت. سميتها العجرفة المعمارية. اللغة العالمية حتى لو ترجمت بكفاءة هي بعيدة عن التواصل مع المبتدئين. في مدارس العمارة. ومع محبي ومتتبعي هذا الفن، هذا التعجرف جعل مكنون ومعنى العمارة، بعيداً عن خريجي المدارس المعمارية. والسبب ليس هناك من يقرأ. ألم نقل الثقافة في محنة. أساتذة لا يزوروا المكتبات، وطلاب يعتمدوا على الحاسوب والآي باد، للحصول على المعلومة. وهي طبعاً مصاغة بالطريقة التي يريدها المعلن والمستهلك، أين المعرفة والثقافة التي تسلِّح المعمار في إختيار القرار الصحيح فكرياً وفلسفياً. العمارة منذ البداية موقف، وقرار يتخذ في الوقت والمكان المناسب، فكيف يدرّس أو يمتهن من قبل فرد غير القادر على بناء فكر وقرار صائب ويكون صاحب نمط عيش متقدم متحضر.
لذا وجدت واكتشفت قدرتي على التواصل، وبأسلوب سلس مع من يرغب في فهم نمط الحياة المعمارية. نعم أنا أسرد نمط عيش بقابلية ترى الجمال في كل زاوية من محيطه وزمانه. لا بسبب جاه ولا بسبب تفضيل. سعادة وعيش لا مجال فيه لقبول الغث. وجدت الشباب يستوعب السرد ويتقبل الكتاب ربما أكثر من الصورة. في كتبي لم أستعمل المخططات والرسوم المعمارية في وصف التصاميم. وخاصة في الـ "ذروموس" وهو المخصص لحكايات المهنة. لا شاعرية ورومانسية في الخط والدائرة والمثل، هذه هندسة ونحن نتكلم عن عمارة صور شعرية وشاعرية لا تتكرر. الكتابة تساعدني في إيصال الفكر، أبعدتهم عن الاعتماد على الآلة. أردتهم ان يستوعبوا ماهيتَهم؟ وما هي جذور مدنهم؟. وكيف العيش بتمدن أصيل؟. إحدى الناقدات المصريات . صرحت بعد قراءتها رواية الكاتبة عالية ممدوح "التانكي" ،والتي تدور حوادثها في داري في الصليخ المطل على نهر دجلة. قالت الناقدة ، "المكعب كتب حوادث الرواية" المكعب الاسم الذي أطلقه المعمار التركي أوزكان عندما كان يدير مؤسسة جائزة الاغا خان للعمارة.
نعم الكتابة تضفي شاعرية، ووصف الإحساس المتكامل، معنى التواجد في المكان، والتفاعل معه، محسوسة بالشامل، من جراء التواجد.
سعيد جداً بالإزاحة التي عملتها كتبي في تعريف العمارة، من دون تبسيطها وابتذالها.
ما مدى تأثرك بلوكوربوزيه .. هذا المعماري الحداثوي الرائد خاصة وأن المعماريين العراقيين نهلوا من أفكاره، بوصفه مرجعية تصميمية للعديد منهم؟
- العمارة كالتصوّف، عندنا القطب والطود والمريد. خلال الدراسة ونحن طلاب بل في كل زمان، من الحياة الدراسية. يظهر مثال نقتدي به، جزء مهم من تثقيفنا المعماري، ننقل منهم نحاكيهم في مشاريعنا الدراسية. لوكوبوزيه وبول رودولف ولويس كان، وغيرهم من الماستر. أقطاب عمارة الحداثة، طبعا نتعلم منهم. وبالتالي اختيار الغورو، الطود الذي يؤثر في عملنا. في البحث عن الذات تنتفي الحاجة. ولو اختيار الأقرب في نمط الفكر. أنا وجدت في فنتوري وكتبه وتنظيره هو الأقرب لنا فكرياً. هو رافض قيم الحداثة الصارمة، تحرر منها الى حد العبث والسخرية. وهو بهذا التحرر وأنا بصورة خاصة. أزلت كل ما يؤطر الفكر. وخاصة إن قيمنا الجمالية المحلية قد تناقض القيم الجمالية الحديثة/البالية كقيم الباوهاوس وغيرها، فبلاها، عسانا أن نثبّت قيمنا الجمالية وهي كثرة خاصة بنا، كالتماثل والزخرفة والتكرار ومراكز الارتكاز. كلها قيم خاصة بنا وتسبغ الخصوصية على ابنيتنا الموروثة.
وأخيراً ما الذي يفكر فيه الآن معاذ الآلوسي بعد أكثر من نصف قرن من العمل في العمارة، خلقاً وبحثاً واشتغالاً؟
- الكتابة اعطتني واسعدتني، أنا هنا أريد أن أشارك مع الشباب نمط عيشي الثر، الغني، كله جمال. وسببه العمارة وقبلها القراءة. نهم وجشع لنهل المعرفة. مهما بلغ بي العمر العتي، عندي القراءة وعيون الجمال تلتقط الحلو والأصيل، أتمتع بها، واستكشف الجديد يومياً، لا حدود في عشق الحلو، شغف موسيقى العالم وتصوير ورسم وقراءة. هذه كلها ساعدتني أو علمتني التغلب على وجع التهجير المتعدد. الحروب المتعددة أينما حللت، عراق وبيروت والكونغو وأرمينيا.
اغتراب والعيش مع الأحبة عن بعد. كلها تجعل الحياة ثرّة لذا أنا سعيد بمهنتي التي وفّرت لي هذه الرحلة الوعرة "الغير شكل".