TOP

جريدة المدى > عام > الأسئلة الكبرى

الأسئلة الكبرى

نشر في: 28 يناير, 2020: 07:55 م

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

لاأظنّ أن أحداً سيختلف معي بشأن حقيقة واضحة مفادُها أنّ العلم لم يزل في ثقافتنا العربية محض بناءات نظرية فوقية لم تتغلغل في نسيج الثقافة الجمعية العامة

التي تمركزت على أطروحات جدالية أو فلسفية لم تبتعد كثيراً عن نطاق الجدالات الكلامية العقيمة التي طبعت معظم مصنفاتنا الفكرية العربية . أما إذا إقترب الحديث من تخوم مايسمى ( الثقافة الثالثة ) التي صارت الخط الفكري السائد في الثقافة العالمية فإننا بعيدون بكيفية لايمكن وصفها إلا بأنها معيبة ومخجلة . 

أقدّم في أقسام متسلسلة أجزاء منتخبة من كتاب علمي ثقافي مثير أنتهيتُ من ترجمته قبل شهور خلت ، وهذا الكتاب من تأليف البروفسور ( بول ديفيز ) ، وهو أحد الشخوص اللامعة في نطاق الثقافة العالمية . 

بول سي. دبليو. دافيز Paul C. W. Davies : عالم فيزياء بريطاني ذائع الشهرة ، وُلِد عام 1946 ، وحصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء عام 1970 من كلية الجامعة University College قي لندن ، وهو مؤلف ومقدّم برامج ، ويعمل حالياً أستاذاً جامعياً في جامعة ولاية أريزونا ومديراً لمركز BEYOND ( مركز المفاهيم الأساسية في العلم ) . تولى مناصب جامعية أخرى في جامعة كمبردج وجامعة لندن وجامعة نيوكاسل وجامعة أديلايد وجامعة ماكواري ، وتنصبّ مجالات اهتماماته البحثية في حقل الفيزياء الكونية والنظرية الكمومية وعلم الفلك البيولوجي إلى جانب اهتمامه الشامل بتأريخ العلوم وفلسفتها . 

نشر البروفسور ديفيز مايزيد على المائة ورقة بحثية في المجلات التخصصية في موضوعات الكوسمولوجيا والجاذبية ونظرية المجال الكمومي مع تأكيده الخاص على موضوعة الثقوب السوداء وأصل الكون . البروفسور ديفيز مولع كذلك بالبحث في الثقالة الكمومية ، وطبيعة الزمان ، وفيزياء جسيمات الطاقة العالية ، وأسس ميكانيك الكمّ ، وأصل الحياة ، وطبيعة الوعي .

يُعرفُ عن البروفسور ديفيز كذلك ولعه بالفن الكلاسيكي والمعاصر إلى جانب ولعه بتأريخ الحرب العالمية الثانية والسياسة والإقتصاد بعامة ، كما يحبّ دوماً أن يظلّ لائقاً من الناحية البدنية بممارسة التمرينات الرياضية بانتظام ، ويحبّ مناقشة الموضوعات الجغرافية أيضاً . 

حصل البروفسور ديفيز على العديد من الجوائز ، منها : جائزة تمبلتون عام 1995 ، ميدالية كلفن عام 2001 ، جائزة فاراداي عام 2002 . 

نشر البروفسور ديفيز العشرات من الكتب المختلفة ذات الطبيعة التقنية المتخصصة أو الموجهة للقارئ العادي .

 المترجمة

1 . النشأة

القسم الثالث

أدرك العلماء منذ أمدٍ بعيد الحاجة الملحّة إلى صياغة كلّ آرائهم بشأن موضوعة ( اللانهاية ) في خطوات رياضياتية دقيقة لأنّ التعامل مع موضوعة اللانهاية يمكن أن ينتج عنه شتى أشكال التناقضات المنطقية . تفكّرْ ، مثلاً ، في الأمثولة الشهيرة عن ( الأرنب والسلحفاة ) التي تنطوي على مفارقة تنسّبُ إلى الفيلسوف الإغريقي زينو الإيلي Zeno of Elea ( الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ) : ثمة سباق بين أرنب وسلحفاة وقد جُعِلت السلحفاة تتقدّم على الأرنب بمسافة ما قبل بدء السباق ، لكن بعد أن بدأ السباق لم يلبث الأرنب الأسرع منها أن تغلّب عليها وفاز في السباق . من الواضح تماماً أنّ موقع كلّ من الأرنب والسلحفاة كان مختلفاً أثناء كلّ لحظة في السباق ؛ لكن لمّا كان كل منهما يجري في الزمن نفسه - أي للعدد ذاته من اللحظات - فسيكون من المفترض فيه أن يمرّا بالعدد ذاته من الأماكن ؛ غير أنّ الحقيقة الواضحة هي أنّ قطع مسافة أكبر ممّا قطعت السلحفاة ولذات الوقت ، وبالتالي سنقفز إلى الإستنتاج بأنه مرّ بعدد أكبر من الأماكن . كيف يمكن والحالة هذه للأرنب أن يتجاوز السلحفاة ؟ 

إنّ حلّ هذه الأحجية ( وهي واحدة فحسب من أحجيات كثيرة تنسّبُ لزينو الإيلي ) يستلزم صياغة ملائمة لمفهوم اللانهاية ؛ فإذا كان كلّ من الزمان والمكان يقبل التقسيم إلى مالانهاية له من الأجزاء فسيكون من المنطقي القول إنّ كلاً من الارنب والسلحفاة قطعا عبر السباق لحظات لانهائية ومرّا بأماكن لانهائية . الخصيصة الأساسية لمفهوم ( اللانهاية ) هنا هي أنّ جزءً من اللانهاية يكون كبيراً للغاية بمثل ماهو عليه الحال مع اللانهاية ذاتها ؛ وعليه فبرغم أنّ رحلة السلحفاة تقطع مسافة أقصر من رحلة الأرنب فهي ( أي رحلة السلحفاة ، المترجمة ) لازالت تقطع أيضاً أماكن كثيرة - أي لانهاية من الأماكن - وعلى النحو الذي يفعله الأرنب حتى لو كنّا نعلم أنّ الارنب مرّ بكافة الأماكن التي مرّت بها السلحفاة ؛ بل أكثر من ذلك أيضاً !! 

إذا ماقمنا بدراسة اللانهاية ستنبثق أمامنا مفاجآت كثيرة من نمط مفارقة زينو الإيلي ، وقد إستغرق الرياضياتيون قروناً عدّة في دراسة البنية المنطقية التي تؤهلهم لبلوغ فهم كامل للقواعد الرياضياتية اللازمة للتعامل مع مفهوم اللانهاية ، وثمة خصيصة غريبة ومدهشة هنا تتمثّل في وجود أكثر من نوعٍ وحيد من اللانهاية : ثمة لانهاية نعرفها من خلال ترقيمها بأعداد كافية ( 1 ، 2 ، 3 ، 4 ، ........ إلى مالانهاية له من الأعداد ) ، وثمة لانهاية أكبر لاتكفيها كلّ الأرقام !! 

حينما يختصّ أمر اللانهاية بالهندسة يمكن أن ينطوي الأمر على تضليل كبير : دقّقْ - مثلاً - في طول السياج المحيط بحقل في منطقة ما وسيكون من اليسير للغاية الوصول لحقيقة أنّ الحقل المستطيل الضيّق يستلزم سياجاً أطول من حقل آخر مربع الشكل ، وكذلك فإنّ الحقل الدائري يستخدم الحدّ الأقلّ من طول السياج المطلوب ؛ لكن كم هو طول مُحيط كلّ من تلك الحقول المختلفة ؟ يوضّح الشكل ( 1 ) شكلاً يحيطُ بعددٍ من المثلثات المتمركزة فوق بعضها وقد صُفّت هكذا من خلال خطوات متتابعة ، ويصبح طول السياج مع كل خطوة تالية أكثر طولاً كما تزداد مساحة المنطقة المسوّرة بالسياج ؛ لكن برغم ذلك لن يتجاوز السياج محيط المنطقة الدائرية ، وعليه ستظلّ المنطقة المحيطة بالسياج محدودة على الرغم من أنّ طول السياج يمكن أن يكبر إلى حدود لانهائية كلّما أضيفت مثلثات أكثر ؛ لذا يمكن تصوّر وجود سياج يمتلك طولاً لانهائياً يحيطُ بمنطقة ذات مساحة محدودة .

لكن هل لكلّ هذا علاقة ما بخلق الكون ؟ أولاً : لاينبغي إستخدام أفكار على شاكلة ( اللانهاية ) بشكل زلق فضفاض وغير منضبط لأنّ هذا غالباً مايتسبّب في سخفٍ لامعنى له ( من الوجهة المنطقية ) . ثانياً : تكشف مثل هذه الأمور أن البرهنة على النتائج المتحصّلة منها تكون في العادة متضادة مع الحدس العادي والبديهة الفطرية الشائعة ، وهذا في ذاته أحد أعظم الدروس التي نتعلّمها من العلم والممارسة العلمية ؛ لذا من المهمّ اللجوء إلى الصياغات الرياضياتية التجريدية والشكلية Formal لإضفاء معنى مقبول على العالم . التجربة العادية اليومية لوحدها يمكن أن تكون مساراً دليلياً مضلّلاً في غالب الأحيان . 

هل الكون لانهائي الحجم ؟ يمكن حقاً أن نتصوّر وجود مجرّات لانهائية مأهولة وذات كثافة واحدة تقريباً في حالة كون الفضاء لانهائياً ، ومن المؤكد أن يشعر الكثيرون بالقلق والإرتباك والحيرة عند التفكير بالكيفية التي يمكن أن يتوسّع بها شيء لاحدود نهائية له ، ثمّ ماذا ثمة مايمكن ان يتوسّع نحوه ذلك الشيء ؟ ليس من معضلة في الأمر إذا ماعلمنا إمكانية زيادة اللانهاية في وعاء ما مع الحفاظ على الحجم ذاته للوعاء ( لنتذكّر مثال السلحفاة والأرنب، وكذلك مثال الاشكال لانهائية المحيط التي يمكن حشرها داخل مساحة محدودة ) ، ويمكن لنا والحالة هذه تصوّر عدد المعضلات التي ستواجهنا في حالة عدنا أدراجنا بهذا النموذج إلى الماضي السحيق - إلى طور " البيضة الكونية " . إذا كانت المجرّات في كل مكان فعلاً فلاسبيل - ولاحاجة كذلك ،المترجمة - إلى وجود " بيضة كونية أولى " محدّدة من الأصل . 

لنتخيّل الآن كوناً لانهائياً مثل هذا : ثمة جسم كروي شديد الضخامة في هذا الكون يحتوي قدراً عظيماً من فضاء يضمّ بدوره مجرّات كثيرة . والآن لنتخيّل أنّ الفضاء راح يندفع في إنكماش سريع من كلّ ناحية ، مثل " أليس في بلاد العجائب " بعد أكلها للكعكة المسحورة ؛ إذ يأخذ محيط الجسم الكروي ينكمش شيئاً فشيئاً ،وبصرف النظر عن مقدار الإنكماش فلايزال ثمة فضاء لانهائي وكذلك عدد لانهائي من المجرّات خارج ذلك الجسم الكروي ، وإذا إنكمش هذا الجسم ليصير ( لاشيء ) بالمعنى الحَرْفي للكلمة فستنشأ حينئذ معضلة رياضياتية معقّدة تختصّ بكونٍ لانهائي إنكمش على نحوٍ لانهائي وليس له مركز أو حافة ؛ لكنّ محتويات أية كرة ، مهما كان حجم نشأتها الأولى ، سوف تُسحقُ إلى نقطة واحدة فحسب عقب إنتهاء حالة الإنكماش المتعاظم في نهاية المطاف ؛ لذا يرى العلماء الفلكيون - ويشاطرهم الكوسمولوجيون ذلك - أنّ الكون إنفجر من إنكماش لانهائي لكنه مع ذلك غير مُحاطٍ بحافات محدّدة . 

ثمة في واقع الحال إحتمالٌ لنموذج آخر للكون يتخطّى تنافس لعبة اللانهائيات الكونية ، كان سبق لآينشتاين أن إقترحه عام 1917 ( في سياق نظريته في النسبية العامة ، المترجمة ) ، ويعتمد هذا النموذج الكوني على حقيقة إمكانية الكون في الإنحناء بكيفية يمكن معها أن يتّصل الكون بذاته بطرق عدّة متباينة غير متوقّعة . يمكن مثلاً إستخدام سطح الأرض المقوّسة مثالاً لهذا النموذج : سطح الأرض المقوّسة محدّد في مساحته لكنه غير محدود كذلك ؛ إذ لايواجه المسافر في أي مكان على هذا السطح أية عقبات أو حدود ، والفضاء - مثل سطح الأرض المقوّسة - يمكنه أن يكون محدداً في الحجم وأن يظلّ مع ذلك من غير حافات أو حدود . يمكن لقلّة قليلة من الناس وحسب تصوّر شيء عظيم في ضخامته كمثل هذا الشيء الذي يمثله النموذج الآينشتايني ؛ لكنّ الرياضيات تستطيع دوماً - وبالنيابة عنّا - تحمّل عبء تقديم التفاصيل المطلوبة . يدعى هذا الشكل الذي يصفه النموذج كرة عظمى Hyperspace ، وإذا كان الكون كرة عظمى حقاً فيمكن حينها لرائد الفضاء - من ناحية المبدأ على الأقلّ - التطواف في مجاهل الكون مثل ( ماجلّان ) كوني من خلال توجيه صاروخه نحو الإتجاه ذاته بحيث يعود دوماً إلى نقطة الشروع الأولى . 

رغم أنّ نموذج آينشتاين محدود ويمثّل كرة كونية عظمى فهو لايحتوي على أيّ مركز أو حافات ( مثل سطح الأرض تماماً والتي ليس لها مركز أو حافة ) ؛ لذا عندما ينكمش الكون فلن يشبه بعدها بيضة كونية ، ويمكن للمرء تصوّر جسم كروي ينكمش إلى ( لاشيء ) بحيث يختفي حجمه وبكيفية تماثل سطح كرة تقلّص نصف قطرها إلى الصفر . 

أدّت دراسة هذا الكون المطّاطي بعلماء الفلك إلى اللجوء لتشبيه إستعاري فيما يخصّ نظرية ( علمية ) للخلق تختلف في تفاصيلها الكلية عن حكاية الخلق التوراتية الواردة في الكتاب المقدّس ، وأكثر خصائص تلك النظرية العلمية إثارة للإندهاش هي إدعاؤها بأنّ الفضاء ذاته خُلِق في الإنفجار العظيم وليست المادة وحدها هي التي خُلِقت فيه . إذا تخيّلنا " بالوناً منكمشاً " بدلاً من آخر متمدّد ( يتوسّع من لاشيء - فسيكون في مستطاعنا الحصول على قصة بدائية لفكرة الخلق التوراتية التي نقرأ عنها في سفر التكوين كما تخبِرنا الفيزياء الحديثة . إنّ الموضوعة الأهم هنا هي إستحالة إستمرار مفهوم ظهور الفضاء خلال طور الإنكماش اللانهائي ، وهو أمر يصحّ سواء أكان الكون يشبه كرة آينشتاين الكونية العظمى ( أي نموذج البالون المتوسّع ) أم كان ذا حجمٍ لانهائي . حين كان الفضاء في حالة إنكماشٍ لانهائي فإنّ الثانية الأولى للإنفجار العظيم تمثّل حدوداً ( أو حافات ) للزمان حيث يتوقّف الفضاء عن الوجود الفيزيائي ، ويدعو الفيزيائيون مثل تلك الحالة بِـ ( التفرّدية Singularity ) .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram