طالب عبد العزيز
لا يمكن قياس نجاح الثورة بعدد المتظاهرين، ولا بعدد الشهداء والجرحى والمعاقين، ابداً. فالارقام لا تعني شيئاً هنا، بالامس مرّت مليونية حكومة الاحزاب والمليشيات وكانها لم تمر، هي لم تترك أثراً في الشارع العراقي،
فيما ظل صدى المخيمات التي أحرقت في البصرة والناصرية يتردد في آفاق الكون، علامة مضيئةً على إصرار أبطال الثورة في التغيير، ودليلاً على خسة ونذالة دولة الكواتم والقناصين.
من كان يعتقد بأن الغالبية هي الحاكمة، في الحق وصدق المبادئ، عليه أن يتذكر بان الغالبية من أهل العراق هي التي قتلت الإمام الحسين، صاحب المبادئ العظمى. كل يوم يمر تكتسي الثورة فيه ثوباً جديداً، وتُغنى بالأفكار الكبيرة، إذ أن الوعي بالثورة، والتأسيس لمبادئها أهم بكثير من عدد المتظاهرين والمعتصمين، ولعل أخطر ما تواجهه الثورات هو القصور في التفكير، والاعتقاد بان ما يقوم به الشباب إنما يعطّل العمل في مفاصل الدولة، ويؤثر سلباً على حركة الناس في الشارع والسوق والمؤسسة.
صدمت بتذمر أحد أقربائي، الذين أحيلوا على التقاعد مؤخراً، لأنه لم يجد الطريق الى مديرية التربية، التي تقع على طريق المتظاهرين، وقد نصبوا خيامهم، كان قد أجمل أحقية وبطلان الحراك كله في إمكانية وصوله الى هناك، وأكمال معاملة تقاعده، ومثله نجد الكثيرين من الذين حالت التظاهرات دون بلوغهم غاياتهم الآنية، أو حرمتهم من متعة الذهاب الى مكان ما، أو أنها عرقلت حركة سيرهم من بيوتهم الى مقار أعمالهم، وللأسف، هناك من لا يعي حجم الضرر الذي لحق به طوال الـ 17 سنة، فهو قانع بالدراهم التي يتقاضها عقب كل شهر، وهو راضٍ عن أداء وزارته ودائرته، وبيننا من استمرأ اليأس، حدَّ عدم احساسه بما يفعله هؤلاء بحياته، فهو في شك وريبة من أمره، بأن الحكومة تسرقه جهده وتحرمه الكثير من حقوقه المشروعة في الحياة.
هناك من يقدّس الحكومة ما يزال، حيث يفعل المقدس في الحياة العراقية ما لا يفعله الساحر بجسد ضحيته، وقد رأينا ساسة الأحزاب الدينية كيف حولوا الدين والتديّن الى ما يشبه الدابة التي توصلهم الى غاياتهم، ثم رأينا كيف يحوُل المقدسُ بين الفهم والإدراك، الذي يحرره العقل وبين الإقرار به عائقاً ومثبطاً، عند العامة بخاصة، فهم غير قادرين على تجاوز عقدة التقديس مهما كان حجم الحقائق الماثلة، هم يقرون أحياناً بواقعية ما تقوم به الدولة من ظلم وجور بحقهم، لكنَّ سطوة التقديس تمنعهم من اتهامها، بل، والقول فيها ما يتوجب على العاقل قوله، فضلاً عن التصدي لها أو مقارعتها.
موقف الشيخ أسعد الناصري هو الوعي بالثورة، وهو الموقف الحق، الذي يتوجب على البالغ العاقل تبنيه، لم يحل المقدس بينه وبين موقفه النبيل من التظاهرات، بعد أن تكشفت الحقائق له، ولم يخذل عقله وإيمانه بالانتصار الحتمي للثورة، ولم ينحز الى مقدسه ساعة اتضح له الموقف. الثورة تنتصر بهؤلاء، لا بالذين تخلوا عن عقلهم لصالح التقديس، مهما كانت درجته، ولا بالذين ينظرون لها عبر قناة مصالحهم الشخصية، مثلما لا تنتصر بعدد الوافقين هناك، وسواء أمتلأت أو خلت الساحات، فكل الحقائق تشير الى انتصارها.