TOP

جريدة المدى > سينما > أسطَرة مَروِيّات الجَدّ.. فيلم 1917

أسطَرة مَروِيّات الجَدّ.. فيلم 1917

نشر في: 29 يناير, 2020: 08:09 م

علي الياسري

يأخذ التاريخ حضوره الاستثنائي من ألتقاء أركانه الثلاثة المكان والزمان والانسان، حينها يصبح العنوان الرقمي للزمن -انعكاساً لكل التفاصيل الواردة تحته نتيجة التفاعل والحراك المتولد لهذه العناصر- لحظة فارقة حملت التغيير للحدث الكبير في مكان ما حيث يقترن الانسان بالتبعية لمجرى الأفعال المتولدة بصورة البطولة.

(1917) ليس فيلماً عن الحرب بحد ذاتها، فتلك مسألة تكررت سينمائياً لحد الاستهلاك. إنه عن مرويات السلوك الانساني التي ترسخ في الذاكرة كمرجع لأيام ثقل فيها الوقت وبات سرمدياً، حين درجت مسارات على حد الموت من أجل أن تستمر الحياة. مفارقة غريبة أن في الارض التي سَمَّدَها البارود، تنشأ نبتة السلم لتعزز الشعور الآدمي بأمنية العيش الافضل. 

يلتقط سام مندس ذكريات جده نائب العريف ألفريد مندس عن أيام الحرب الكونية الاولى، ليؤسس على ثيمة سردياتها التي حفظت بعض صور النبالة والفروسية، حكاية يعمل فيها الخيال البشري سعياً لتكوين معالم أشخاص عاديين حملتهم ظروف الزمان والمكان لرحلة أكتسبت مع تمدد فضاء الوقت صفتها الأسطورية. 

خلف خطوط العدو تكمن النجاة، ولا مسعى للوصول إلا بأختراقها. ذلك الواجب أُسند لجنديين مهمتهما تبليغ إحدى الوحدات التي انقطعت عنها الاتصالات بعدم شن الهجوم، لأنه سيكون فخاً يجعل حياة 1600 جندي معرضة للإبادة وبضمنهم أخ لأحد الجنديين. على هذه القصة يؤسس المخرج سيناريو فيلمه مشاركة مع الكاتبة كريستي ويلسون كيرنز وفق منهج الاسطورة الذي وضعه جوزيف كامبل بكتابه الشهير (البطل بألف وجه). فالرحلة لاتحتمل أكثر من أثنين يتركان لحظة هدوء آمن لتنفيذ واجب سيمنح فيه القدر لأحدهما لعب دور البطولة، وللثاني دور المساعد المُلهم أو الدليل الذي يعمل على تبديد مخاوفه وشحنه بالقوة والشجاعة التي خبت لديه بفعل تراكمات الحرب وقسوة أيامها وطبيعتها الوحشية السافرة. يصر صنّاع الفيلم على اقتفاء خطوات كامبل في اسطرة البطل، فنراه في ذروة القص البصري يتلقى الرصاص ولا يصاب، يُدفن تحت الانقاض ولا يموت! ثم الدليل الاوضح على تأثير رؤية عالم الميثولوجيا الامريكي لخط البطولة في فيلم (1917)، الالتقاء بالمرأة في مشهد يبدو غريباً على إيقاع الحدث لكنه ليس كذلك بالنسبة لتوصيف المونوميث حسب تحليل كامبل للأسطورة. 

منذ البداية يمنح مندس رحلة فيلمه حكمة الطريق نحو الفعل البطولي على لسان القائد العسكري الذي يكلف الجنديين بالمهمة، قاطعاً تساؤل أحدهما بأبيات شعرية للكاتب والشاعر الانكليزي روديار كيبلنغ، "نزولاً الى الجحيم أو وصولاً للعرش، يسافر أسرع من يسافر لوحده". ما تضمنه الشعر يحاول القول إن الفعل الأخلاقي المبرر في الحرب هو البقاء حياً، ولو توجب عليك إنجاز مهمة، فللوصول الى هدفك من الأفضل أن تحقق ذلك وفقاً لرؤيتك وثقتك بقدراتك وقراراتك مهما بدت مستحيلة. 

إذا كان كلكامش قد رفض الرضوخ لسطوة الموت في رحلة بحثه الاسطورية عن نبتة الخلود، فإن الشجرة الوارفة المخضرة التي أتكأ عليها سكوفيلد بأفتتاح الفيلم وختامه، هي رمز لتشبث البطل بنسغ الحياة، في حالة تماهي مع صورة الأم التي كتبت له خلف صورتها (عُد الينا). لقد ارتبطت الاشجار كمرجعية للتكوين البصري والحكائي على طول زمن الفيلم بالحياة والموت، متجلية في العديد من المشاهد بأكثر من تعبير. فمرة هي جذوع مقطوعة تماثل جثث القتلى، وأخرى هي كثيفة الخضرة متشابكة الفروع، يستند إليها الرجال المُنصتين لأغنية حنين الى الوطن والأهل قبل لحظة القتال، تملؤهم نضارتها فيض نشاطٍ وحيوية، وهي بذات الوقت تمثل انتصار إرادة الحياة التي كانت مسعى رحلته. لكن أبرز تعبيراتها البصرية ألهاماً هو ذلك المشهد للجنديين يقتحمان حقل أشجار الكرز المورقة والمقطوعة حديثا في إشارة الى اقتراب موت احدهما. 

قيمة فيلم (1917) إنه يرثي البطولة ويزدريها رغماً عن إرادة صانعيه! فالبطل (سكوفيلد) يرفض لعب دورها المتولد من الحرب ويمقت فعلها المبني على الموت والعنف والحط من الحس الانساني، ولذلك لم يتوانى عن مبادلة وسام الشجاعة بزجاجة خمر، لأنها في نظره مجرد قطعة معدنية لاتجعل المرء مميزاً، ولا تحدث فرقاً سوى كونها تذكار لحظات عصيبة، بدى العالم فيها رمادياً شاحبا عوضاً عن خضرة الحياة ونبضها الطافح. 

يمثل الزمن عنصراً حيوياً وفاعلاً رئيساً في المعمار الدرامي والنسق المشهدي للفيلم. فالحروب تعرف لحظة بدايتها ، لكن الخاتمة تظل غير منظورة، يملأُ سماؤها ضباب الشك وخفوت الامل. كذلك وقع الحدث الحربي، بلحظته يبدو الزمن، فرط من عبث انتظار نهايته. يتمدد الوقت فيه فيصبح غير محدود، يستمد تغوله من هاجس الموت وسطوة تجليه. على هذا الايقاع المتوتر يمارس سام مندس قدراته الاخراجية في تنمية الاثارة والتي يشهد لها سقوط سماء العميل السري 007، وتكثيف الاستغراق السينمائي لصالح التشويق ترافقه موسيقى توماس نيومان لتعزز من احساس الجحيم المتولد. وبمعية مدير التصوير السينمائي المميز روجر ديكينز سعى لتجسيد توحش ظل الحرب على النفوس بتلك اللقطات الطويلة والاعتماد على الاضاءة الطبيعية، مُبتكراً اساليب شتى لدعم استمراريتها، رفقة مونتاج مُبهر قدمه المونتير القدير لي سميث. فالتقنية بكل إمكاناتها الهائلة صارت خادمة لا مسيطرة -كما في العديد من افلام السينما الحديثة- لتفعيل أفكار الابداع في تكوين الصور الممتدة دون قطع كثير، لكنه حين يظهر سيقنعنا انه غير موجود بسبب براعة سميث. 

في (1917) يُعيد المخرج سام مندس برؤية مُستحدثة قراءة الهامش والمتن في طبيعة السرد للفيلم الحربي. شكل الصورة وديناميكيتها تدفع بالرحلة الناشئة عن مرويات امتزج فيها الواقع بالخيال الى الأمام حيث لا عودة دون إنجاز المهمة. فعل بطولة سيتولد ويتضخم، هامساً بأذن المتلقي، الزمن يمضي، والذاكرة تحفظ، والخيال يُضيف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

ترشيح كورالي فارجيت لجائزة الغولدن غلوب عن فيلمها (المادة ): -النساء معتادات على الابتسام، وفي دواخلهن قصص مختلفة !

تجربة في المشاهدة .. يحيى عياش.. المهندس

مقالات ذات صلة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر
سينما

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

علي الياسريمنذ بداياته لَفَتَ المخرج الامريكي المستقل شون بيكر الانظار لوقائع افلامه بتلك اللمسة الزمنية المُتعلقة بالراهن الحياتي. اعتماده المضارع المستمر لاستعراض شخصياته التي تعيش لحظتها الانية ومن دون استرجاعات او تنبؤات جعله يقدم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram