د. نادية هناوي
كثيرة هي التصورات المبنية على تجارب الحياة التي منها ينظر الإنسان إلى الأمور بتجردٍ تامٍ، وبمرور الزمن تصبح تلك التصورات ثابتة
وقد تصل في ثباتها إلى درجة المسلَّمات، حتى كأنها حقائق لا مجال لتغييرها أو دحضها أو استبدالها، وعن ذلك يقول ماركس في كتابه "الايديولوجيا الألمانية":
(لقد اصطنع البشر باستمرار حتى الوقت الحاضر تصورات خاطئة عن أنفسهم وعن ماهيتهم وعما يجب أن يكونوه، ولقد نظموا علاقاتهم وفقا لأفكارهم عن المطلق والمحدود)
وقد سادت في الفكر الإنساني تصورات واعتقادات كثيرة، توطدت عبر التاريخ وشاعت فلا تكاد تفلت منها قضية من قضايا الحياة أو ظاهرة من ظواهرها، ومن أهم تلك التصورات وأكثرها تجذراً في جينالوجيا الفكر الإنساني هي تفوق الذكورية وهيمنتها على النسوية، التي على وفقها تتقولب ماهية الجنس البشري وعليها تبنى مسارات الحياة واتجاهاتها.
ومثلما يتأتى ثبوت الاعتقاد واستقرار التصور من خلال تجارب الأفراد وخبراتهم، كذلك تغدو عملية إعادة النظر في الثوابت والمترسخات متجلية في تجارب الأفراد وخصوصاً المرأة بوصفها الطرف المعني سلباً بالثبوت في القضية الجنسانية.
ولا عجب أن تميل أغلب الفلسفات إلى مركزة الإنسان في أدبياتها معتبرة إياه المحرك الفعلي للتاريخ، ومن ثم تغدو موضوعة المرأة حاضرة بقوة، لا بالتصور الآنف الذكر وإنما بتصور جديد يخرق الرسوخ والاعتياد، انطلاقا من حقيقة أن لكل إنسان ـ رجلا كان أو امرأة ـ إرادة تجعله مشروعا قادراً على تغيير نفسه وربما العالم، وأنّ من غير المنطقي عزل هذا الإنسان عن التاريخ أو استبعاده ليكون خارجه استصغاراً ودونية.
ومن الفلاسفة الذين تبنوا هذه الحقيقة ووقفوا إلى صف المرأة جون ستيوارت ميل الذي دعا إلى تحريرها من أغلال التصور الراسخ الذي ينظر لها كتابعة لا يتاح لها ما يتاح للرجل؛ بل الواجب عليها أن تعترف بضعفها على وفق قانون القوة والغاب.
وقد وجد ستيوارت ميل أن هذا القانون الذي ينظم العلاقات الاجتماعية بين الجنسين خاطئ، لأن فيه الموجود البشري الذي هو أنثى سيظل محكوماً عليه بالاستعباد وبلا إرادة منه من قبل الأقوى الذي هو الذكر.
وستيوارت ميل في تخطئته لقانون الغاب وتفنيده لمبادئ التفوق الذكوري؛ إنما يقلب التصور الراسخ اجتماعياً بتصور مضاد وجديد مفاده أنّ الرسالة الطبيعية المزعومة للنساء هي أكثر شيء تنفر منه طبيعتهن، وأن النساء لا يفعلن أبداً ما هو مضاد لطبيعتهن عندما تترك هذه الطبيعة تعمل بحرية، ومن ثم لا مبرر للذكورية على الإطلاق لمنع النساء من فعل ما لا يستطعن فعله.
وهذه الحقيقة الانثروبولوجية هي ما عملت الذكورية طويلاً على طمسها وسعت إلى ترسيخ ما يضادها، حتى صدقت المرأة أن رسالتها الطبيعية( البايولوجية) هي الخيار الوحيد أمامها في الحياة، وهو الذي به تدافع الذكورية عن مصالحها الذاتية غير وجلة مما لدى المرأة من روح هي (طاقة تجعل حصان السبق الأصيل يجري دون إبطاء حتى يقع ميتا وهي تلك الروح التي مكنت عددا كبيرا من النساء الرقيقات من التمسك والجلد .. خلال سلسلة طويلة من التعذيب البدني والنفسي) (استعباد النساء، ص117)
والقصة القصيرة من الوسائل الأدبية التي بها نستطيع تلمس منطقية هذا الاستشراف وحتمية تحققه ثقافياً، بوصف القصة القصيرة فناً سردياً يمرر المواقف النقدية التي فيها يتبنى الكاتب تصوراً يدحض به ثابتاً من ثوابت الفكر، محفّزاً القراء على التأمل وهو يختزل أمامهم اللحظة المعيشة في صفحات قليلة، معبِّراً فيها عما يجوس في دواخله من اعتمالات شعورية، يبنيها أما على تجاربه الذاتية أو على مشاهداته الواقعية في الحياة.
ولا شيء يحفّز القراء على التأمل مثل التبني لموقف نسوي فيه يخالف الكاتب أو الكاتبة التصورات الراسخة ويخلخل المعتاد منها، مظهراً بجرأة رأياً خالجه ومعرباً بجسارة عن إحساس خامره، ممرراً ما يبتغيه عبر القصة. وكلما تضادت التجربة النسوية مع الراسخ كان تبرير موقفها أكثر قوة وتحفيزا للقراء.
ولأن الوظيفة السردية في القصة القصيرة جمالية، يتشكل الموقف النسوي جمالياً. فيندمج الجمالي مع الفكري ويكون الأول مبرراً للثاني في آن واحد. وهو ما قامت به القاصة العراقية سميرة المانع في قصتها ( الرجال ) التي فيها اتخذت موقفاً نسوياً يدافع عن المرأة ويفضح مركزية الذكورية الطاغية وجبروت فاعليتها المهيمنة.
والقصة منشورة في العدد السادس من مجلة الآداب اللبنانية عام 1966 في مرحلة كان عدد القاصات قليلاً، وبعض من هذا القليل كان ينشر باسماء مستعارة، وبعضه الآخر كان يماشي الذكورية في العموم مقرا بسطوتها وتفوقها عليه.
وكثيرا ما تغافل مؤرخو الأدب القصصي العراقي والعربي ذكر هذا العدد القليل من القاصات. وإذا صدف وذكروهن وهو نادر فلا يكون ذلك إلا من باب الوصف لتجاربهن بالمحاولات البسيطة والساذجة والسطحية.
وإذا كانت الذكورية محجِّمة للنسوية بالعموم؛ فإن ما ينبغي للقاصة أن تفعله هو مناهضة هذا التحجيم. وهو ما فعلته سميرة المانع متخذة من القصة القصيرة أداة سردية بها تمرر موقفها النسوي المبرر لما في المرأة من أهمية في الحياة.
وقد واصلت المانع في قصصها ورواياتها اللاحقة تبني الموقف المناهض للذكورية، وذلك بما تعطيه لشخصياتها النسوية من فاعلية مركزية أو من خلال جعلهن محاطات بسارد عليم يتعاطف معهن بحب، مزودا إياهن بأساليب بها يقدرن على مواجهة الذكورية ويتمكن من إثبات هويتهن.
وإذا كانت شخصية الأب في قصة ( الرجال) تمثل الذكورية بخشونتها التي فيها سر سطوتها، وهي تنظر للأحياء والأشياء بمنظار القوة، فإنّ شخصية البنت هي تمثل النسوية المغلوبة على أمرها التي لا دور لها سوى خدمة الذكورية.
ولكي تعزز الكاتبة موقفها النسوي الناقد للذكورية، وسعّت نطاق الوعي الاجتماعي مستعملة المجاز الذي به حققت وظيفة رمزية، اجتمع فيها التأمل والتفسير بالبلاغة والإبداع، معتمدة في ذلك على معرفتها الحدسية بالأشياء وما أسعفتها به موهبتها الأدبية.
ويغدو في استدعاء حكاية العنزة التي كان موتها بولادة متعسرة سبباً في حياة وليدها العنز الذكر، مؤشر رمزي على الحتمية الطبيعة التي تكون فيها الأنوثة هي موئل الذكورة والسابقة عليها والمضحية من أجلها، فلا مجال لعزل مصير إحداهما عن الأخرى. وتقابل هذه الصورة الطبيعية صورة اجتماعية بطلتها زكية التي عليها يقع دور أمومي في تربية العنز الوليد واول ممارسة لهذا الدور هي تسميته باسم شوقي.
وتعزز القاصة هذه المقابلة الأنثوية بين الصورتين الطبيعية والاجتماعية جمالياً باستعمال مقولات استعارية تنفتح بسببها حدود القصة القصيرة على الشعر ومجازاته الانزياحية لتغدو القصة القصيرة هي الجنس العابر القادر على إذابة الشعر في قالبها. ولأن السارد متعاطف معها، يعمد إلى التلاعب بالأزمنة نحوياً من خلال التحول من الاسترجاع إلى الاستشراف الذي هو ليس الاستباق، والسبب أن الزمن سردياً لا يتوازى مع زمن آخر؛ فزمن السرد واحد لكنه يتحرك مرة إلى الوراء ومرة إلى الأمام، وبالشكل الذي يظل فيه المسار الاسترجاعي هو نفسه بلا مسافة فاصلة.
بمعنى أن السارد لا يقول (سوف نرى لاحقا) وإنما هو يستشرف رغبات زكية وأمانيها مستعملاً السين واللام ولو وليت وإذ تبطئ هذه الاستشرافات إيقاع الحركة السردية الاسترجاعية، فإنها تبقى محافظة على مسارها اللغوي المنتظم.
وكلما كانت القصة القصيرة محملة بمقولات استشرافية صار التعبير عن الواقع أكثر تخييلية حتى لا حد بين الحقيقة والخيال. وكأن المؤلف يبتكر العالم من جديد، مقيماً من خلال الاستشرافات الحلمية علاقة خفية بين النص والقارئ تعبر عن وجهة نظر السارد الفعلية وليست البروتوكولية التي بها يتبنى الموقف النسوي مشاركاً الشخصية معاناتها بحب ومثالية فيها الخط الزمني ثابت في (ما وقع) ولا يتعدى الى (ما سيقع).
والثبوت عند الزمن الاسترجاعي سيجعل زمن السرد معززاً الموقف النسوي، جاعلاً الشخصية هي المالكة لمسار السرد الذي لا يمتد من الماضي إلى الحاضر كسرد لاحق ولا من الحاضر إلى الماضي كسرد سابق؛ وإنما يجعل الامتداد استشرافياً كنوع من السرد الحلمي الفوري.
وقد تكون سميرة المانع هي السابقة في هذا التبني لبنات جيلها من القاصات اللواتي أتقنَّ كتابة القصة القصيرة مثل الروائية لطفية الدليمي والقاصة بثينة الناصري.
ومن التعزيز الذي به يبرر السارد موقف زكية النسوي استعمال التساؤلات المتهكمة والمستفهمة التي قابلها الأب أما بالتجاهل أو بالسخرية أو بهما معا. وسيتضح جبروت الذكورية في طمس الكيان النسوي وتغييب أولويته الاجتماعية والتاريخية بشكل أكبر في استبطانات السارد العليم لدواخل زكية النفسية التي بها يتصاعد الموقف النسوي في المناهضة والرفض. وتكون خلاصة هذا الموقف واضحة في ختام القصة التي فيها تعبر زكية عن امتعاضها ورغبتها في العصيان والتمرد على سلطة الأب. فحين نادى الوالد زكية لكي تحضر له السكين والحبل( ناولته السكين والحبل ولم تشأ إخباره أنها ذاهبة إلى بيت الجيران) كي لا تشهد المجزرة.