ناجح المعموري
صدرت رواية قصيرة جديدة للقاص هيثم بهنام بردى بعد روايته المهمة التي صدرت ضمن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق .
وخضعا معاً لبناء فني فيه كثير من التماثل إذا لم أقل التطابق ، لكن المثير للانتباه قدرة هذا الأنموذج السردي القصير على قبول تنوعات الشخوص ، وتداخل الوقائع والأحداث وامتدادات زمنية طويلة . لأن البناء الفني الذي اختاره هيثم بردى ، ساعد على إثراء السرد بالتعدد الوقائعي والتنوع السردي . واعتقد بأن روايته " الطيف " من الأعمال الفنية التي تظل بالذاكرة ، وليس سهلاً نسيان التفاصيل والتداخلات والغرابة ، نشوء الهامات تعزز الحضور الجوهري للشخصية المركزية في رواية " الطيف " واعني به الفنان دافنشي ، حيث حاول القاص هيثم بردى استحضاره عبر وثائق ومدونات ، اتخذت صفة تاريخية وتراثية . وكأن هيثم بردى لم يجد أفضل من المخطوطة ، ليقدم عبرها عملاً روائياً انفتح نحو التحديث ، لدرجة استحضر نصوصاً لدافنشي ضمن عمله الروائي القصير " الطيف " ومثل هذه التجربة جديدة تماماً وكانت المنقولات من قصص وأساطير دافنشي ، ذات وقع بنائي عزز حضور الرأسمال الرمزي لشخصية فنان كبير ، انفتح من خلال عديد من مجالات فنية متعددة ومتنوعة ، وهذا ذاته تجاور مع شخصية الروائي عبر الرحمن منيف في رواية هيثم الجديدة " الأجساد وظلالها " والتي حصل فيها تباين بنائي عن رواية " الطيف " السابقة . وتمثل بتقديم توصيفات شبه كاملة عن عبد الرحمن منيف ، كي يستعيد حضوره وسط فضاءات ذات جغرافيات واسعة جداً ، هي " شرق المتوسط " وشخصية " رجب " الرمز الذي اختصر الكثير من الشخصيات وصار معبراً عنها . وهم اعداد هائلة ، لأن " شرق المتوسط " جغرافية الاستبداد الشرقي / العربي والذي استحضره هيثم بردى عبر عبد الرحمن منيف . وأيضاً التشارك وإياه بتبني هذه السردية الكبرى ، والتي تكرست وتعززت في زمن افتراض الربيع السياسي ، لكنه لم يكن كذلك . واعتمد هيثم على تجربة المشارك ، الذي كان شاباً صغيراً ، واتخذ قراره لمغادرة الوطن من أجل حياة حرة . لكنه لم يستطع فهم مغزى حكاية والدته المنطوية على نصيحة البقاء . وفعلاً واجه مصيراً مرعباً ، ومثيراً للفزع حتى تبدّت حياته في المعتقل نمطاً غرائبياً ، مع معرفتنا بأن السلطة مبتكرة ، لما هو جديد في الإخضاع والقمع والانتهاك وكأن " هيثم " وضع سرديته هو ، مجاورة لسردية رجب الشخصية المحورية ، في رواية عبد الرحمن منيف وكيف تعرفا على الشرق المتوسط ، وتفاصيل الإزاحة والتدمير الكامل للكائن البشري ، من أجل بقاء السلطة ، وهيمنة خطابها الثقافي .
لعبت المخطوطة دوراً جوهرياً ، باعتبارها عنصراً بنائياً في الروايتين والصدفة وحدها كشفت عن وجودهما ، وابتداء سردية العمل الروائي القصير ، واغتناه بالتعدد والتنوع ولابد من التذكير بأن رواية " الطيف " السابقة أكثر تحكماً بعناصرها البنائية ، وتوفر فرص صعود البناء السببي على الرغم من أنها سردية ما بعد حداثية واعتقد بأن كل ما قاله هيثم من توصيفات فنية عن هذا النوع السردي قابلاً به ، لأنه يمثل وجهة نظر " ابو المعاطي الرمادي " الذي توصل عبر بحث أكاديمي لضبط العناصر الفنية الخاصة بمثل هذا العمل . والدليل بروز أكثر من ملمح لم تذكره جدوله هيثم بردى . عن هذا النوع السردي ولا أجد ضرورة له غير تنبيه القارئ لخصائص عمله هو ، أكثر مما قدم توصيفاً دقيقاً لهذا النوع السردي . وعلى سبيل المثال برز في الرواية الثانية " الأجساد وظلالها " سريات سردية له ولأخيه زهير بردى وأيضاً لعبد الرحمن منيف .
وفي هذه الرواية قصدية واضحة لكسر الإيهام التقليدي في الحكي ، الذي عرفته الرواية منذ زمن قديم . وذهب هيثم باتجاه خلخلة النمطي ، واقتراح تصور فني جديد . واتضح هذا جلياً في روايته " الطيف " و " الأجساد وظلالها " إنه ما زال في منطقة التجريب المقبول ، وتداخل العناصر النمطية والحديثة ، مع تجاور قوي من خلال تماثلات خاصة بحياة الفرد وحريته وهذا ما عمل عليه منيف وبردى . وذهب بردى نحو استكمال التماثل التقريبي بالعناية عبر ملاحقة شخصية " رجب " والراوي " هيثم " الذي استطاع الاقتراب الى منيف كثيراً ، ليس بموضوعة " شرق المتوسط " فقط وإنما بالسعي لتدمير التقليدي وتكريس بقاء مطاردة المختلف وهذا ما تم التعرف عليه ص55 ، عندما كتب بردى عنونة : شرق المتوسط ، من جديد ، وجديد ، وجديد : كتبها هيثم بهنام بردى آذار 1978. للتاريخ دلالة عميقة ، وكلنا نعرف حجم المطاردة وملاحقة المختلف السياسي ، ونوع القمع والإبادة ، الذي لم يكن بحاجة لتدوين بعض مواد شرعة حقوق الإنسان ، ولم يحدد اسم المدينة التيس اختارها مسرحاً لإعادة تمثيل تجربة " رجب " من خلال الراوي " هيثم " لأن الراوي ومنيف يدركان معاً بأن المدن كلها متشابهة مع شرق المتوسط .
في هذه الرواية استثمار سريع ، لكنه قوي الدلالة ، وخصوصاً استعادة الطفولة المبكرة ، في اللحظات الاخيرة ، التي سبقت المغادرة . وأعني بها المردودات المألوفة لنا ، واستحضارها كاف للدلالة ، على أن السائد في الأبيض المتوسط غيب هذه المرويات .
دول دول دولية
بابا ذهب الى البراري البعيدة
كي يجلب الدهان والأمشاط
كي ادهن شعرك وأمشط قذلتك
حضور اليوليوسية في الرواية القصيرة فيه تمظهر واضح عن نوايا الراوي للتهجرة . وأيضا الاشتغال على بينلوب مغايرة عن التي عرفتها الأسطورة الإغريقية ، أنها نافذة صغيرة للأمل والخلاص . بعدما تمركزت الفجيعة بتصفية حامد وأنيسة زوجة رجب ما يعني بأن ما كان متداولاً من تقاليد للسلطة ما زال مستمراً وتعايش معه الأفراد . لكن ذكاء هيثم بردى في التوظيف الأسطوري منح الرواية منفذاً للخلاص ، تمثل بحياة جديدة تماماً من خلال طائر الفينيق / العنقاء / السيمرغ مع الأهمية التي تفضي إليها هذه الأسطورة المتنوعة والمختلفة قليلاً بإضافات السيمرغ الخاص بـ " منطق الطير " لفريد الدين العطار . لكن الجوهري هو أن الأبيض المتوسط ذاكرة هذه الأسطورة ولن تبقى ساكنة . فحتماً هي متغيرة ووجود طائر السيمرغ دال على ذلك . لكن لابد من تأشير القساوة التي انطوى عليها موقع " منسيون " وما قدمه من معلومات هي دائماً ما تتكرر في أعمال هيثم القصصية والنقدية ، لكنها في هذه الرواية ذات دلالة فاعلة ، توميء لرأسمال بردى الرمزي .