طالب عبد العزيز
في أيام كهذه من كل سنة تشهد بساتين ابي الخصيب والفاو وشط العرب عرساً زراعياً، حيث يبدأ موسم الربيع، في ممارسة عمرها أكثر من ألف سنة،
تتخللها فعاليات اجتماعية، رجالية ونسائية، بديعة، غائرة في الزمن، لا يمكن فصلها عن فلكلور المدينة، وقد باتت ضمن نسيج الحياة اليومية، ارتبطت بها طبائع وأخلاق الناس، حيث لا يمكن معاينة تاريخ المدينة إلا من خلالها، لكن، وبفعل أهوج وغبي من حكومات ما بعد 2003 راح كل شيء، مضى الى غير رجعة. لقد جُرّفت الأرض ورُدمت الانهار.
قد لا يلاحظ متبضع الخضار والفاكهة في السوبر ماركت الصغير أو السوق أثر ذلك، ولا يلاحظه غالبية جيل ما بعد 2003 إلا أننا، نحن الذين شهدنا قيامة المدينة زراعياً، وتذوقنا طعم خضراواتها وفاكهتها وتمرها نتحسس عن ألم الفقد ذلك. إذ معلوم للجميع ارتباط الانسان بالأرض وبما تنبته من عشب ويغرس فيها من نبت وأشجار، بوصفها مادة يومه، ومثل أي كائن حي، تسهم الأرض في صوغ طبائعه وسلوكه ولغته وتقلبه بين الناس، فقد ارتبط بها عبر المثل الشعبي والحركة الجسدية والنظر والسمع وتقطبية الجبين ولون بشرته ووصفه لأبنائه وأقربائه .. الخ وبصورة أعم تشكل الأرض وأنهارها وسمائها وأشجارها صورته الكلية، التي لا يمكن النظر اليه إلا من خلالها.
ولأنني، ابن البيئة تلك، حفيد أسلاف بررة، جبلوا على ذلك كله، فالمسألة عندي تختلف عن الآخرين، هناك من عاب عليّ موقفي من الساكنين الجدد، الذين لم يرعوا لنا نهراً ونخلاً، ومثلهم عاب عليَّ التعلق بحياة القرية، أوقولهم: ما الذي يحدث إذا رُدم نهرٌ، أو جُرِّفَ بستان نخل؟ لا، أبداً فالقضية لا تتعلق بهذه وتلك، إنما أنا مضيع وفاقد العلائق الانسانية التي مازالت ماثلة في روحي، أنا متسول إنسانية كانت قائمة بلا حدود، ولكم أن تتصوروا ارتباط مصير أسرة بكاملها بما غرسوه اليوم من خيار وباميا ولوبياء وطماطة، لكم أن تتصورا انتظار الاسرة هذه ثلاثة قُروء (اشهر) بلياليها ونهاراتها، كيما يجنوا ريع ما غرسوا، كيما يتنعموا بملبس جديد، بوجبة طعام مختلفة، لكم أن تتصورا فسحة الأمل في أعينهم، لحظة السعادة التي تغمرهم، وهم يقطفون من بستانهم ما غرسوه قبل أشهر ثلاثة.
يقول أبو كريم(فلاح من أهل الفداغية) كان أهله مُلاكَ أرض واسعة، باعوا أغلبها اليوم، فافتقر مع من افتقروا هناك، بأنه يحتفظ لي بصيد وفير من السمك، اصطاده خصيصاً لي. لم أقدم له فضلاً ما، أبداً سوى أنني أهديته قنينة خمر مما يصنع في بغداد الباذخة، وحين سألته عن سرِّ بقائه الأبدي هناك، في الفداغية التي تبعد عن الفاو ثلاثين فرسخاً، وتنأى عن البصرة بمئة كلم ويزيد، بأنه لا يرى حياته خارج الماء والنخل، ولمّا كنت أفارعه الامثال في ابي الخصيب كان يزيدني منها في الفاو، وحين كنت اتصورني فائقه في الفلاحة والجني والمتعب -أنا العارف- كان يذكر لكل واقعة أناساً وأمثلةً .
اليوم، يُسعد الناس بقرار دائرة التسجيل العقاري، الذي قضي بتحويل الاراضي الزراعية الى عرصات ومساكن، أنا حزين جداً، وبلغ حزني أقصاه وأقصاه .. لقد ذهبت الأيام والليالي، وذهبت المواسم معها وضاع الأمل، وانقرض الحلم ولم يعد في القلب ما يذكّر بتلكم الأيام. لقد أجهزت الحكومة على أكبر حقل أخضر في العالم. ثمة من يبكي دماً هنا، في الأرخبيل الرطب هذا، في الركن القصي من العالم.