إلى الراحل غدراً الدكتور علاء مشذوب في ذكراه السنوية
جاسم عاصي
(دراجة وقبعة )...عنوان اخترته مباشرة لحظة نبهني حفيدي مصطفى ،وهو يُشير بإصبعه :
ــ أُنظر جدو ...
ــ إلى أين ..؟
ــ إلى هناك ، حيث الزاوية ..!
لم أجد سوى دراجة هوائية وقبعة معلقة على أحد كفيّها .سألت نفسي كيف انتبه الصبي إلى هذا ، وأنا لم تبدر منّي التفاتة ولو سريعة كما اعتدت أثناء دخول الأمكنة ،متفحصاً محتوياتها ! ربما سهوّت بتأثير ما يعج به المكان من تلوينات جامعة لكل جمال الفن من أزياء وعروض ، وحركة دائمة ودؤوبة للخارجين والداخلين .بوابة الخان العملاقة التي دُرزت جدرانها وطابوق أقواس سقفه بالجس الناصع البياض ، مع صفرة الطابوق التي بدت جلية ومدهشة ، نبهتني إلى شدة حرص البنّاء على إظهار هذه الهيبة للخان الذي كان يأوي المارّة عبر صحراء واسعة ممتدة بفيض واسع .
قال :
ــ لقد عرفتها يا جدي ..!
ــ ماذا تقصد ..؟
ــ الدراجة ؟! ماذا دهاك ؟ ألم أقل لك انتبه للزاوية تلك ؟!
ــ بلى قلت .. حقاً إنها دراجة وقبعة !!؟
ــ لقد عرفتها .
ــ ماذا عرفت ؟
ــ الدراجة .. ألم تكن دراجة صديقك الذي كان يأتي على ظهرها إلى بيتنا؟!
ــ على ظهرها ؟
أصابني ذهول ، ليس من وجود الدراجة ،وإنما من انتباه مصطفى السريع لما حوّله، والنعوت التي أسبغها عليها . كانت كلمة ظهرها قد أثارت في نفسي صوّر كثيرة ،في الوقت الذي بدأ حدسي قليل الحساسية في ممارسة مراقبة الأشياء . ترى هل أدركني الكِبَر فحال دون أن تُثيرني الأشياء الصغيرة ، فبدا الصبي أكثر حسّاً مني بالأشياء من حولنا ؟ . كيف حدث مثل هذا ؟ سألت نفسي ، لكني كتمت ما كنت أشعر به، لأنه كشف لفضيحة لا أغفر لنفسي عن ارتكابها .
قلت له :
ــ نعم ها أني أراها .
ــ قلت لك إنها دراجة صديقك ذي الصوت العالي وهو يتحدث ، وهذه
قبعته ، ألا تتذكر؟
ــ كيف يحدث مثل هذا يا ولدي ، أتذكر ، إنه صديقي بدراجته يأتي إلى بيتنا
وبواسطتها يكون بين صفوف المجتمعين في المنتديات ..
ــ يأتي إلى بيتنا . مراراً كان يأتي . إنه يحبك كثيراً كما كان يبدو لي .
ــ كثيراً ... كثيراً ما كان يزورنا ، وكثيراً ما كنت أحبه .. نعم يا ولدي !
ــ ما بك يا جدو ، أراك مرتبكاً ، وربما نسيت بعض الأشياء . هل نأخذ
شيئاً من الراحة قبل الخروج . ثمة مقاعد ودكات في البناء ؟
ــ لا .. أنا بخير ، إنه صديقي الذي كان يأتينا ... ويأ...
ــ وعلى هذه الدراجة .. إنها دراجته أعرفها جيّداً كنت أُداعبها وأنتما
منشغلان بالحديث. وهذه قبعته .
ــ أحسنت ، عرفتها.. يا لذكائك .
ــ كيف لا أعرفها .. كيف ...وهو يزورنا كثيراً . هل أن رأسه خال من الشعر
يحاول بالقبعة إخفاء صلعه ؟
ــ نعم كان كذلك .. لكنه جميل بكليهما .
ــ أنا أحبه كثيراً وحزنت لسماعي خبر موّته ..!!؟
ــ موّته ؟
أدركت ما كنت قد سهوّت عنه ، وسط فيض من التصوّرات ، وكان لزاماً عليّ أن أتماسك أمام حفيدي الذي بدا حافظا لكل شيء ، خاصة زيارة أصدقائي ، فقد بدا لي كما في كل مرّة أنه يعرفهم بدقة ، خاصة ما كان يظهر عليه وهو يمارس طقس الضيافة في احضار ما تتطلب الزيارة . إنه يعد الشاي والقهوة بمهارة. إذ يأخذ البعض بالأحضان ويقبلّهم بود وصاحب الدراجة من ضمنهم ، بل أنه يُحيطه بعناية ومحبة خاصة لفتت انتباه صديقي وقتها معلقاً ، بأن هذا الصبي سينشأ على ذكاء وكرم . وقتها قلت له ؛ إنه على سر جده .ضحك بفرح وهو ينظر لي بعينين فاحصتين شأن كل مرة ،كما لو أنه يُشاهد فيَّ ما لم يره على هيئتي ، لقد كان كثير الذكاء في تقدير الأشياء . ربما عرف بذكاء متميّز مدى ما أضمر له ولغيره من محبة وتقدير . كنت وقت نبهني حفيدي منشغلاً بلا شيء . لم أجد مبرراً لذلك السهو عن شيء مهم في حياتي . كما أنه شديد الجذب لحظة دخولنا قبل الخروج . حين تدخل البوابة تكون الدراجة حاملة القبعة على اليسار ، والعكس صحيح . أنبت حسي الذي بدأ يضعف ، وهذه كارثة لسارد مثلي يعتني بتفاصيل المكان . فقد رحت أردد حتى حين استقلنا السيارة عائدين إلى المدينة . لم أتذكر سوى دراجة نموذج محمد خضير وراكبها الذي اخترق الأحراش وتزاحم قامات التخيل للوصول إلى عمق الريف من أجل تسليم رسالة المقاتل الشهيد. كان ذلك في السبعينيات والقاص كما هو معروف عن سرده أنه معني بخصائص المكان ، يبحث احساسه بالمكان عن الصغائر فيه والتي تقوده إلى ما هو أكبر في الدلالة والتصوير، أخذته حرب اكتوبر فسطر نصاً متميّزاً عن مآسينا. إنه يتحلى بحساسية مكانية ، تعلمت منه الكثير ،يُضاف إلى ذلك أننا من بيئة متقاربة . كيف ضَعُف إحساسي بالمكان ومحتوياته ؟؟ كيف ؟ إنها لوّثة فرضها عليّ الزمن بشيخوخة مفروضة على وجودي .لذا أخذت استعرض هفوتي ونحن نستقر في البيت ، حيث تمتعن بقسط من الراحة بعد تناول وجبة الغداء معاً كما اعتدنا . كان يراقبني هذا الحفيد ، ويعرف سلوكي اليومي ، لاسيّما أوقات ممارسة الكتابة على الحاسوب ، وفترة قراءاتي وشعوري بالفراغ الذي تجسد كثيراً في حياتي اليومية. يبدو أنه وجد فيَّ فتوراً بتنفيذ برنامجي ، لكنه نبهني بعينيه الفاحصتين ، واللتان أعرف مراميهما . وقتها خفضت نظري عنه ، وتظاهرت برغبتي في النوّم وقت الظهيرة. وهو يعرف جيداً مبلغ أهمية مثل هذه القيلولة في يومياتي . لكنه مال إلى المراقبة وبحذر من مغبة أن يحدث نوّعاً من ردة الفعل في نفسي . كان بودي أن أقول له ... لم أنس الدراجة اطمئن، ولم أغفل عن صورتها لحظة ، غير أني تغافلت بوحي له بسبب ما تركت لي من ألم ، تركز في صورة لا أرى صاحبها وهو يمتطي ظهرها على حد تعبيره البليغ، تلك الفرس الرهوان ، التي لا تمل من حمله ، وهو يخترق المسافة الملتوية من طرف المدينة إلى حيّنا . لذا ليس لي رغبة في هذا سوى التفكير كما اعتدت أن ابحث عن عنوان لما أكتب . لم أجد سوى دراجة وقبعة. وهما بالتأكيد يعنيان ضمن حقل عتبة السرد شيء كبير سوف استحصل مركباته اللغوية بتوالي حماسي في الكتابة. تمنيت أن أعكس له مثل هذا التصوّر . ترى هل يفهم ما أنا أقصده من كلامي قبل عنواني ؟ إني أشك في هذا ، لذا أرجأت الحديث في هذا حال انتهائي من الكتابة ، ومؤانسته قبل أن أقرأ ما كتبت حول ما نبهني إليه ، حيث تنجلي كل الملابسات التي قد أحدثت في نفسه بعض الشك حوّل شيخوختي .
قبعة ودراجة ، أو لنقل دراجة وقبعة .وربما قبعة معلقة في كف دراجة ، أو دراجة حاملة قبعة بطرفها المعقوف . ماذا يعني كل ذلك ؟ هل يُغيّر من الدراجة في أنها تصبح سيارة أو طيارة تطير على عجل وتغادر المكان ؟ أو أنها قبعة تطير وتحط على أي رأس بشعر كثيف أو رأس حاسر؟ أُجزم أنها ستقف على رأس حاسر الشعر . وتلك شيمتها المتركزة في حرصها على إظهار صاحبها على وجه آخر ، سواء كان مقبولاً أو غير مقبول ، فهي تُغيّر ما يتوّجب تغييره . توليه عنايتها هذه .فكّرت في هذه العناوين ، غير أني تمسكت في الأول الذي هو .. دراجة وقبعة .. لما له من أثر في نفسي ، وما سيتركه في نفس حفيدي الذي هو ولا أحد من القرّاء الحذقين الذين يهتمون بقيمة الثريا في النص ما سوّف يقيّمونه. دراجة وقبعة .وجودان متلازمان لا يتخلى أحدهما عن الآخر . ربما كان هذا من وصايا صاحبهما ، أو من نوّع أخلاق الوفاء الذي يتحليان به . فهو سلوك تربيا عليه بفعل عناية من كان يمتطي الدراجة ، ويُحيل القبعة إلى رأسه مخترقاً تيارات الهواء دون مبالاة. ما كان يسقيهما أو يطعمهما ، حتى أضافة الدهان على سلسلة العجلة لإحداث مرونة في السير نتيجة دفع كفيّ القدمين على الكفيين السفليين المتناوبيّن صعوداً وهبوطاً وفق مقتضيات حركة الكفيّن. لكن احساسهما بوجود صاحبهما ، كان يدفعهما للعناية به . فهما لا يدريان ، هل هما ضيف عليه ، يتركهما لحظة بلوغ الهرم على كليهما كي يستبدلهما بدراجة بخارية أو سيارة كما كان يعمل أثناء ذهابه إلى مناطق بعيدة يتعذر عليهما الوصول إليه . في هذا الزمن يركنان للراحة فيما ترفع القبعة كفها وهي تبارح المكان مع صاحبهما . إذ يبدو الحزن على عينيّ القبعة لهذا الفراق المباغت. ربما تبتسم أو تضحك في سرها لمداعبة الدراجة المتروكة لوحدتها، لكنها تبدو كتومة على ذلك خوفاً من تجريح مشاعر صاحبها ، فهما يهمّان بمغادرة المكان خارج البيت ، حيث تبقى الدراجة خالدة مع وحدتها بعد عناء طويل . وأولاده لا يعالجون السلسلة والقفل الذي يربط به الدراجة إلى انبوب الماء في مجاز البيت . يذهب لمشواره وتبقى قبعته على اطمئنان تام على ذراع الدراجة ، فهي في الحفظ والصوّن ، وستستقبلهما على رحابة صدر حين يعودان من سِفرهما للبعيد ،وستحكي عن كل ما رأت كصاحبها السارد المكين ، لحظة تدرك مجيئهما فتأخذها صحوّة بعد إغفاءة ، وتحس تماماً بوجود القبعة معلقة على كفها كما اعتاد صاحبهما يومياً . إذ ليس مصادفة إظهار المشهد بهذه الطريقة من العرض . وإن بدا كذلك ، فهو دال على الوجود واللاوجود في آن واحد .سؤال مرير انتاب الدراجة ،وربما القبعة أولاً .. إلى متى سيبقى الانتظار لصاحبهما ؟!! هل سيعالج أفراد البيت أمرهما ويبعدوهما بسبب ما يُثير وجودهما مشاعرهم ويكثف حزنهم... ربما سيكون مأواهم سوق الهرج ، أو مكب السكراب...؟!! ليس مهما كل هذا كما تعتقد الدراجة وقبلها القبعة المتآخيتان ،ستخرجان في منتصف الليل وتجوبان الأزقة والشوارع الرئيسية من المدينة، وليقل ما يقول الآخرون ، وليتصور كل من يراهما يهمان هكذا حاملين جسد صاحبهما بود منقطع النظير ......