لطفية الدليمي
كان صباحاً رائعاً مبشراً بالخير ذلك الذي نهضتُ فيه لأقرأ - كعادتي كلّ صباح - صحيفتنا العزيزة (المدى ) وبضع صحف عربية وعالمية أخرى؛
فإذا بي أرى إصداراً جديداً (هو ليس بجديد بل مواصلةٌ لإصدار سابق ) وزّعته الصحيفة كتاباً مجانياً معها. غمرتني مشاعر البهجة؛ فأنا في نهاية المطاف كاتبةٌ تتوسّلُ بالكلمات وسيطاً تنويرياً يثري العقول والأرواح والحياة، وسيكون أمراً في عداد البداهة أن أستبشر بكلّ مطبوع جديد ينشر الكلمة وبخاصة إذا ماكان مجانياً متاحاً للجميع. إنّ مفردة (المجاني) هنا إستعارة مجازية - كما في الكتابة الأدبية - ؛ فليس ثمة شيءٌ بالمجان، وإذا ماكان مجانياً فهذا يعني أن هناك جهة تكفّلت بتحمّل تكاليفه كاملاً ليكون مجانياً للقارئ. في الوقت الذي أوقفت مجلّات عربية مقتدرة مالياً إصدار الكتب الشهرية التي كانت تصدر معها؛ لذا فعندما تعيد صحيفةٌ يومية - وليس مجلة شهرية أو فصلية - إصدار كتاب مجاني فتلك مهمّة أقربُ لأن تكون مغامرة إيثارية مكلفة لايقوى عليها إلا المتنوّر الجسور في عالم الكلمة والنشر .
قرأتُ الكتاب في جلسة متصلة واحدة. وكان العنوان المؤثر للكتاب ( الإحتجاجات التشرينية في العراق : إحتضارُ القديم واستعصاء الجديد ) أول مايثير انتباه قارئه، و أشيرُ هنا إلى العنوان الثانوي الذي جاء توصيفاً دقيقاً غاية في البلاغة والتكثيف والإيجاز للثورة العراقية .
يتشكّلُ هيكل الكتاب من خمس مقاربات تناولت جانباً مؤثراً في الحياة العراقية الحاضرة، كتب كل مقاربة من تلك المقاربات الخمس أكاديمي متمرّس في مقدرته الكتابية وتخصصه. أرى أنّ هذه هي الميزة الأكثر ثراءً في هذا الإصدار : أن تتناول توصيف الوضع العراقي - الذي تسعى الثورة العراقية لإعادة تشكيله بصورة جذرية - بطريقة تتناغم مع المتطلبات الأكاديمية المعروفة لكنما في إطار نصّ مكتوب بطريقة متقنة يمكنها الإستحواذ على الذائقة العامة. تلك مهمة ليست باليسيرة، وقد أوفى الكُتّاب الخمسة غاية الإيفاء بمتطلبات هذه الثنائية الخطيرة ( متطلبات التناول الأكاديمي / القدرة الكتابية المحببة التي تتوجّه لعامّة القرّاء ) .
أولى المقاربات جاءت رؤية إقتصادية للوضع العراقي كتبها الدكتور ( مظهر محمّد صالح )، الشخصية الإقتصادية المرموقة والمتمرّسة في الإقتصاد العراقي، والذي تمتّعتُ - مثل كثيرين سواي - بمقالاته الرصينة التي تجمع عادة بين الإقتصاد والسياسات الحكومية وتأريخ الأفكار والسوسيولوجيا المحرّكة للنشاط الإقتصادي، وهو معروفٌ بقدرته على مخاطبة القارئ بلغة رفيعة تمثل وجبة دسمة تتطلّبُ قراءة مدققة؛ لكنها قادرةٌ في النهاية على إثراء القارئ بتفاصيل قلّما يستطيع بلوغها إلا في الكتب التخصصية العالية. إنّ مقاربة الدكتور صالح - على سبيل المثال- لكيفية التحوّل من العولمة الإستهلاكية السائدة في العراق حالياً إلى نمطٍ من الميركانتالية ( النزعة التجارية ) المرشّدة والمحكومة برأسمالية الدولة لهي واحدةٌ فحسب من الرؤى الثرية التي نقرأ عنها في هذه المقاربة .
المقاربة الثانية هي مقاربة سياسية تناولت بنية السلطة في العراق، كتبها الدكتور ( حارث حسن ) الذي لطالما عرفناه باحثا وكاتباً ثري المعرفة والمقدرة، وقد سبق لي أن ترجمتُ واحدة من مقالاته الممتازة التي نشرها مركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط، ونشرتها ( المدى ) .
المقاربات الثلاث الأخيرة تناولت قراءات سايكولوجية وثقافية وسوسيولوجية كتبها الأساتذة المتمرّسون ( فارس كمال نظمي، عقيل عباس، علي طاهر الحمود )، وهي أيسرُ للقراءة من المقاربتين السابقتين لكونها أقرب إلى المشهديات المرئية في الواقع العراقي .
كتاب ( الثقافة للجميع ) المجاني خطوة ثقافية فاعلة تستحقّ ( المدى ) من أجلها كلّ التقدير والعرفان .