TOP

جريدة المدى > عام > الأسئلة الكبرى

الأسئلة الكبرى

نشر في: 25 فبراير, 2020: 08:04 م

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

لاأظنّ أن أحداً سيختلف معي بشأن حقيقة واضحة مفادُها أنّ العلم لم يزل في ثقافتنا العربية محض بناءات نظرية فوقية

لم تتغلغل في نسيج الثقافة الجمعية العامة التي تمركزت على أطروحات جدالية أو فلسفية لم تبتعد كثيراً عن نطاق الجدالات الكلامية العقيمة التي طبعت معظم مصنفاتنا الفكرية العربية . أما إذا إقترب الحديث من تخوم مايسمى ( الثقافة الثالثة ) التي صارت الخط الفكري السائد في الثقافة العالمية فإننا بعيدون بكيفية لايمكن وصفها إلا بأنها معيبة ومخجلة . 

أقدّم في أقسام متسلسلة أجزاء منتخبة من كتاب علمي ثقافي مثير أنتهيتُ من ترجمته قبل شهور خلت ، وهذا الكتاب من تأليف البروفسور ( بول ديفيز ) ، وهو أحد الشخوص اللامعة في نطاق الثقافة العالمية . 

بول سي. دبليو. دافيز Paul C. W. Davies : عالم فيزياء بريطاني ذائع الشهرة ، وُلِد عام 1946 ، وحصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء عام 1970 من كلية الجامعة University College قي لندن ، وهو مؤلف ومقدّم برامج ، ويعمل حالياً أستاذاً جامعياً في جامعة ولاية أريزونا ومديراً لمركز BEYOND ( مركز المفاهيم الأساسية في العلم ) . تولى مناصب جامعية أخرى في جامعة كمبردج وجامعة لندن وجامعة نيوكاسل وجامعة أديلايد وجامعة ماكواري ، وتنصبّ مجالات اهتماماته البحثية في حقل الفيزياء الكونية والنظرية الكمومية وعلم الفلك البيولوجي إلى جانب اهتمامه الشامل بتأريخ العلوم وفلسفتها . 

نشر البروفسور ديفيز مايزيد على المائة ورقة بحثية في المجلات التخصصية في موضوعات الكوسمولوجيا والجاذبية ونظرية المجال الكمومي مع تأكيده الخاص على موضوعة الثقوب السوداء وأصل الكون . البروفسور ديفيز مولع كذلك بالبحث في الثقالة الكمومية ، وطبيعة الزمان ، وفيزياء جسيمات الطاقة العالية ، وأسس ميكانيك الكمّ ، وأصل الحياة ، وطبيعة الوعي .

يُعرفُ عن البروفسور ديفيز كذلك ولعه بالفن الكلاسيكي والمعاصر إلى جانب ولعه بتأريخ الحرب العالمية الثانية والسياسة والإقتصاد بعامة ، كما يحبّ دوماً أن يظلّ لائقاً من الناحية البدنية بممارسة التمرينات الرياضية بانتظام ، ويحبّ مناقشة الموضوعات الجغرافية أيضاً . 

حصل البروفسور ديفيز على العديد من الجوائز ، منها : جائزة تمبلتون عام 1995 ، ميدالية كلفن عام 2001 ، جائزة فاراداي عام 2002 . 

نشر البروفسور ديفيز العشرات من الكتب المختلفة ذات الطبيعة التقنية المتخصصة أو الموجهة للقارئ العادي .

 المترجمة

1 . النشأة

القسم الخامس

لو أنّ نظرية الإنفجار العظيم أعزِيت بكاملها لجهود كلّ من هابل وآينشتاين وحدهما فحسب لما كان مقدّراً لها أن تنال كلّ ذلك الدعم الواسع ؛ ولكن لحسن الحظ ثمة شاهدة مؤكدة تبرهن على صحّة هذه النظرية في حدود معرفتنا الراهنة . 

من المؤكّد أن العنف الجارف الذي تزامن مع نشأة الكون ترك آثاراً عظيمة على بنية الكون ، ومن الطبيعي أن نتوقّع وجود بعض آثار مرحلة النشأة الأولى للكون حتى يومنا هذا ، وقد أصبح البحث عن بقايا النشأة الأولى الجهد الرئيس الذي تنصبّ عليه كافة المشاريع العلمية المعروفة في يومنا رغم الغرابة التي تكتنف هذا الأمر ؛ إذ ثمة أسباب عديدة - لوجستية ومالية - تدفع بهذا الإتجاه البحثي لأنّ ظروف الكون وهو في طور تشكّله البدائي توفّر لنا مختبراً طبيعياً نموذجياً يتيح إمكانية معرفة تلك الظروف الأولى لنشأة الكون وهي في حالتها القصوى التي لايمكن توفير محاكاة لها على الأرض بأي حال من الأحوال ومهما بلغت درجة تعقيد الأجهزة العلمية ومدى دقتها وإتقانها في العمل . وفي محاولتهم الحثيثة لإختبار النظريات الخاصة بسلوك المادة وهي تحت تلك الظروف المتطرّفة القصوى توجّب على الفيزيائيين الإستناد على المعطيات الكونية التي توفّرها الكوسمولوجيا الحديثة ، ويراود هؤلاء الفيزيائيين أملٌ مديد بإمكانية إحتواء الكون على آثار أو متبقيات من العمليات الفيزيائية التي حصلت أثناء الومضة السريعة الخاطفة الأولى لنشأة الكون ، ومن ثمّ يمكن الإرتكان إلى الحسابات الرياضياتية وعمليات المحاكاة الحاسوبية لبحث مصداقية توقعات المنظّرين الفيزيائيين الخاصة بدراسة سلوك المادة وهي تحت تلك الظروف القصوى غير المسبوقة . 

الإكتشاف الأكثر إثارة بشأن البقايا الكونية الخاصة بالنشأة الأولى حصل بمحض صدفة عابرة في أواسط الستينيات ( من القرن الماضي ، المترجمة ) حين إعترض إشعاع غامض من الفضاء إثنين من الفيزيائيين اللذين يعملان لحساب شركة بل للهواتف ، ثمّ تأكّد بعد تدقيق وتمحيص أنّ هذا الإشعاع الذي يغمر الكون بأكمله هو آخر بقايا الوميض المتلاشي الذي تزامن مع النشأة النارية للكون . تسبّب الإنفجار العظيم ، شأن كلّ إنفجار آخر سواه ، في توليد كميات هائلة من الحرارة، واستغرق تبريد الغازات الكونية في واقع الحال 100,000 سنة حتى بلغ درجة حرارة مماثلة لدرجة حرارة سطح الشمس ؛ ولكن بعد أن مضت ثمانية عشر بليون سنة - ويزيد عليها قليلاً - فقد إنخفضت درجة حرارة الإشعاع الكوني في أعماق الكون إلى مجرّد ثلاث درجات فوق الصفر المطلق ( يعادل الصفر المطلق -273 درجة مئوية - أو سيليزية - ) ؛ ولكن برغم هذا لازالت كميات عظمى من الحرارة محتجزة في هذا الإشعاع الحراري الكوني . 

إنّ معرفة درجة الحرارة التي تقترن ببقايا الإشعاع الحراري الكوني موضوعة يسيرة يمكن حسابها عن طريق حساب التدرّجات المتتابعة في درجة حرارة كلّ العهود المتعاقبة على الكون ، ويمكن الإنطلاق من حقيقة أنّ درجة حرارة أية منطقة منتخبة في الكون تنخفض بنسبة 50% في كل مرة يتزايد فيها حجم تلك المنطقة بمقدار الضعف ، وقد حصل الإستنتاج عبر العمل من خلال متابعة مراحل التطور التعاقبي للكون أنّ درجة الحرارة كانت عشرة بلايين درجة عقب الثانية الأولى بعد نشأة الكون، وقد يبدو هذا شديد الحرارة لكنه لايزال يعتبرُ أمراً ممكناً في نطاق الإمكانيات المختبرية . 

إحتوت الحقبة التي سبقت الإنفجار العظيم على الكثير ممّا تدرسه فيزياء الطاقة العالية، وقد عملت تلك الطاقة العظيمة على تحطيم المادة وتفكيكها إلى مكوناتها الأولى . يحظى هذا الطور المبكّر للغاية - أي الثانية الأولى للوجود الكوني - بدراسة مكثفة ومعمّقة من جانب الفيزيائيين النظريين الذين يعتقد بعضهم في الأقلّ أنّ في المستطاع تفسير خصائص كثيرة للكون بواسطة عمليات حصلت أثناء تلك الثانية الكونية الأولى وبعدها بوقت قصير كذلك، وسنصف في الفصل التالي بعضاً من تلك التطوّرات الأكثر راهنية وأهمية .

تُعامَلُ نظرية الإنفجار العظيم في يومنا هذا باعتبارها حقيقة مسلّماً بصحتها إلى حد كبير من قبل الفيزيائيين الفلكيين، وقد أصبحت الحسابات الخاصة بوفرة الهيليوم جزءاً أساسياً من الكوسمولوجيا المعيارية منذ أمدٍ طويل؛ لذا من السهولة دوماً غض النظر عن النجاحات المعتبرة والمبكّرة ( من جانب الأجيال الأحدث من الفيزيائيين وعامة الناس ، المترجمة ) ؛ فلو أنّ عالم آثار من القرن التاسع عشر إدعى إكتشافه جنة عدن وجاء بقطعة ما تمثّل شاهدة لايمكن الطعن بمصداقيتها عن العمل العظيم الذي إجترحه الإله في اليوم الأول للخلق لنال ذلك الإدّعاء صدى عظيماً بين كافة الناس وداعب عواطفهم العميقة على نحوٍ دراماتيكي مؤثر . أما من جانب النشأة الكونية فقد لايكون الهيليوم عنصراً مألوفاً لمعظم الناس ولكن يمكن شراؤه متى ماأردنا من المصانع التي تنتجه . إنها لفكرة خارقة حقاً إذا ماتفكّرنا في أنّ هذه المادة - أي الهيليوم - التي تنتجها المختبرات والمصانع تشكّلت في الفرن الكوني البدائي لافي اليوم الأول من الوجود بل في بضع الدقائق الأولى منه فحسب . 

يدعم الرأي العلمي السائد حالياً نظرية الخلق بقوة كبيرة ؛ غير أنّ من المهم في الوقت ذاته إدراك عدم وجود أي مسوّغ منطقي يستلزم نفي إمكانية الأزلية الزمانية للكون . يمثل القانون الثاني للديناميكا الحرارية - كما رأينا من قبلُ - المعضلة الفيزيائية الجوهرية ؛ ولكن برغم ذلك تُقَدّمُ من حين لآخر آليات من شانها التغلّب على هذه المعضلة ، ومن أمثلة تلك الآليات هي نظرية الحالة الثابتة ) أو المستقرة كما توصف أحياناً ، المترجمة ) Steady - State Theory التي يعود فضل إقامة هياكلها إلى كلّ من هيرمان بوندي ، توماس غولد ، فريد هويل ، والتي يبدو الكون فيها لانهائياً في الزمان . تحاشت كلّ النسخ الخاصة بهذه النظرية حالة الموت الحراري للكون تبعاً لمتطلبات الديناميكا الحرارية بالإقتراح أنّ ثمة خلقاً مستمراً للمادة ذات المحتوى الأنتروبي الواطئ ، وهكذا بدلاً من إنبثاق المادة جميعها مرة واحدة كلية عند الإنفجار الأول فقد ظهرت المادة بشكل تدريجي وربما حتى بشكل متقطّع بما يشبه إنفجارات مصغّرة في المناطق السحيقة من الكون ، وبهذه الشاكلة يتمّ تعديل المعدّل المتوسّط لظهور مادة جديدة بواسطة آلية من التغذية الإسترجاعية Feedback ، وهكذا عندما يتوسّع الكون تقلّ كثافة المادة الموجودة فتنبري المادة المخلّقة حديثاً ( بواسطة التغذية الإسترجاعية ، المترجمة ) في ملء الفجوات الناجمة عن التوسّع بغية المحافظة على كثافة ثابتة للكون ؛ وبذلك يحصل تعويض المجرّات بمجرات أخرى ناشئة جديدة لتحلّ في الفراغ المتّسع وبكيفية تكفل بقاء الخصائص العامة للكون على حالها من حقبة كونية لأخرى من غير أية تغيرات تذكر. عند المقارنة بين نموذج الإنفجار العظيم ونموذج الحالة الثابتة للكون نرى أنّ كثافة المجرّات تنخفض على نحوٍ مطّرد في النموذج الأوّل ، وفي الوقت ذاته تتطوّر بنية الكون ويضطرد تنظيمه .

إجتهد هويل في تفسير الخلق الذي لاينقطع للمادة بالإستعانة بنموذج جديد لحقلٍ يحتوي طاقة سلبية، وحيث يعمل التعزيز المستديم لهذا الحقل على توفير الطاقة الإيجابية اللازمة لخلق المادة ( سنناقش موضوعة خلق المادة من الطاقة في الفصل التالي ) ؛ وبعمله هذا يكون هويل قد إستبعد الإله كلياً من نموذج الحالة الثابتة للكون لسببين : الأول ، هو أنّ الطاقة الأولية اللازمة للخلق ليست في حاجةٍ لأن تُخلق لأنها - وبكلّ بساطة - طاقة تنشأ عن طاقة سلبية كامنة في منظومة أخرى ويجري تحويلها باستمرار إلى طاقة إيجابية تساهم في الخلق المستمر للمجرّات، و أمّا السبب الثاني فهو عدم إمكانية خلق الزمان والمكان لأنهما موجودان - كما هما - بهيئة كينونة دائمة وثابتة . 

حاز نموذج الحالة الثابتة للكون على جاذبية عظيمة من قبل الكثير من العلماء بسبب بساطته وأناقته الرياضياتية ؛ لكن برغم ذلك فإنّ التقدّم المضطرد في الكوسمولوجيا والفلك كان من شأنه وضع حدّ لأيّ نسخة مغالية في التبسيط لهذا النموذج ، ثمّ جاء الكشف عن الإشعاع الحراري للخلفية الكونية Cosmic Background Heat Radiation ( الذي مرّت مناقشته في فقرة سابقة من هذا الفصل ، المترجمة ) ليدقّ المسمار الأخير في نعش هذه النظرية عام 1965 ومع ذلك تظلّ هذه النظرية بمثابة فكرة قائمة للبرهنة على إمكانية وجود إحتمال منطقي بعدم الخلق الفجائي للكون وكذلك عدم تطوّره المؤكّد نحو الموت الحراري المحتّم ، وبالإضافة لذلك تبقى هذه النظرية دلالة على إمكانية جعل كلّ العمليات - بما في ذلك خلق المادة - تحصل بفعل آليات طبيعية بدلاً من آليات فوق - طبيعية . 

إنّ حقيقة تقديم علم الكوسمولوجيا الحديثة شواهد مادية ضاربة بشأن خلق المادة لهو أمرٌ يلقاه المفكّرون الدينيون بفرح كبير وأريحية عظيمة؛ ولكن برغم ذلك لاتعدّ هذه الشواهد كافية ببساطة للجزم بحصول خلق للمادة . يخبرُنا الكتاب المقدّس أنّ الإله هو من خلق الكون . هل يمكن للعلم إلقاء إضاءة كاشفة من نوعٍ ما عن سبب الإنفجار العظيم ؟ هذا هو جوهر الموضوعة التي ستشكّل مادة الفصل التالي من كتابنا هذا .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram