طالب عبد العزيز
الذين عاصروا الكاتب والقاص محمود عبد الوهاب(1929-2011) يقولون عنه بأنه كان جميلاً وأنيقاً جداً، وغاية في التهذيب، وحتى سنوات ليست بقليلة سبقت موته، كنتُ ممن لاحظوا ووقفوا على ذلك، ومثله كان الجيل الأول من الشعراء والأدباء والمعلمين والمثقفين وعموم طبقة موظفي الدولة.
كانت الاناقة في الشكل والثياب والسلوك علامة النخبة تلك، صورة الحياة العراقية الباذخة، ومن يطالع الألبومات التي تنشرها بعض الكروبات على صفحات الانترنت يقع على المعنى الحقيقي للانسان العراقي، أو لنقل على صورة الطبقة الأولى والمتوسطة في المجتمع آنذاك.
وكان الشاعر محمود البريكان(1931 - 2002) (ستحل علينا ذكرى مقتله في نهاية الشهر ) مثالاً آخر للاناقة والجمال والتهذيب، فهو لا يخرج للقاء ضيفه إذا لم يحلق ذقنه، ولم يتعطر ولم يرتد ما يليق بمن يستقبله من ثياب، وعلى الضيف أن ينتظره الى ما شاء من الوقت، وكان طلابه في معهد المعلمين بالبصرة يتحدثون عن شغفهم بخطه الجميل على اللوح الاسود، حتى ظن بعضهم أنه، وهو يمسك بالطباشير إنما يشرع بكتابة قصيدة، لا ليدون به التاريخ والمادة ومتطلبات الدرس، وقد شهدت كثيراً من ذلك، لذا أقول: نعم هكذا كان، ومن شاهده في تجواله الاسبوعي، في شوارع المدينة على الكورنيش أو في الأزقة بالعشار أو في البصرة القديمة تصوره سائحاً، أو مستكشفاً في مدينة لم يرها من قبل.
وكنت من الذين كانوا يزورون القاص والمؤرخ والصحفي إحسان وفيق السامرائي في بيته، بعد خروجه من السجن، في تسعينيات القرن الماضي، حيث ناء الحصار بكلكله على الجميع، وقد عصفت به الاقدار بشكل قاس وموجع، إلا أنني لم أره إلا باسماً، متحرراً مما جرى له، في قاعة الخلد، والسجن الانفرادي، غير شكّاء من ذلك، أنيق الثياب، وحلو الحديث.. يكتب ويخط ويرسم ويدخن البايب، خاصته، التي عرف بها، يتحدث عن أنواع التبغ، كما لو أنه في إحدى ضواحي باريس، حتى لتشعر بجمال الكون من حوله وأنت تجالسه وتتحدث إليه.
لم تكن صورة المحمودين(عبد الوهاب والبريكان) والسامرائي إحسان خلاصة زمن ثقافي عراقي، أبداً، فقد كانت الصورة أشمل وأعم من ذلك بكثير لحياة عراقية كاملة، وما ذكْرنا لها هنا إلا بوصفها إنموذجاً، وبوصفنا الشهود على الزمن ذاك.
ظل احترام العامة للمثقف في العراق قائماً لأنَّ المثقف ظلَّ محتفظاً بهيئته الأولى التي لا بد له منها، حريصاً على الصورة التي يعتقدها العامة فيه، مكتفياً بما عنده، حتى في ساعات العسرة، باذلاً ما بين يديه، وإن لم تعتقه وتذله الحاجة . ربما لا يعي ذلك البعض اليوم، أو لم يسمع به. وبالمناسبة هذه نقول: الصورة النمطية للمثقف في الذهنية العراقية يمكن تلخصيها بالأناقة في المظهر، والثياب والتهذيب في الحديث، والكرامة في النفس. كان نصر حامد أبو زيد يردد:" المثقف ليس كلب حراسة، إنه حارس قيم" كان الجيل ذاك حارس قيم لا حدود لها، ولعمري، لا أشقى ولا أمرَّ من مهنة كهذه.