ثائر صالح
يمكننا اعتبار فن المقام العراقي جزءاً من "الموسيقى الكلاسيكية" بمفهومها الشامل والأعم. فالمقام العراقي يتميز بوجود الشكل الموسيقي المحدد ويبنى وفق قواعد فنية معروفة ومحددة الخ.
لكن هذا الفن العريق الذي يمتد تاريخه إلى بضعة قرون على أقل تقدير لا يزال يدور في فلك الشفاهية والتقليد ولم تجرِ دراسته وتحليله بشكل علمي حديث عبر الاستعانة بترسانة العلوم الموسيقية إلا بشكل محدود على يد الباحثين الشرقيين والغربيين على حد سواء. مثل هذه الدراسة الشاملة ضرورية لنقل هذا الفن من عصر السماع الى عصر التدوين بكل ما تعنيه هذه النقلة، مثلما نقل التدوين الذي اخترعه السومريون المجتمع البشري من عصور ما قبل التاريخ الشفاهية الى العصور التاريخية التي نعرفها. وتحدثنا الباحثة الموسيقولوجية شهرزاد قاسم حسن عن النفور أو لنقل التنافر التقليدي بين المؤسسات الموسيقية (معهد وأكاديمية الفنون، معهد الدراسات النغمية الخ) من جهة، ومجتمع المنشغلين بالمقام أنفسهم من قراء وعازفين وخبراء ومتذوقي فن المقام، وتعزيه الى عجز المؤسسات عن حل مشكلة تدوين المقام بشكل علمي وصحيح ولهذا أسبابه.
التعريف الشائع للمقام العراقي "هو من الفنون الموسيقية العربية القديمة (منذ حوالي 400 سنة في العراق). المقام العراقي يختلف عن تسمية المقام في الموسيقى الشرقية. فتسمية المقام في الموسيقى الشرقية تدل على سلالم النوتات الموسيقية السبعة، والمقام العراقي يدل على اسلوب اداء وعرض موسيقي. فالمقام العراقي هو عرض موسيقي يتكون من عدة اجزاء تشتمل على تحرير او بدوة، قطع أو أوصال، الجلسة، الميانة، الصيحة، القرار وأخيراً التسليم. وعلى حد أدنى يلزم توافر التحرير او البدوة، القطع او الاوصال، والتسليم لقراءة المقام" (حامد السعدي: كتاب المقام وبحور الأنغام 2006). هذا ما يسمى في الموسيقى الأوروبية جانر، قالب، شكل موسيقي.
أما تعريف حسقيل قوجمان فهو يوضح ما سبق بشكل أفضل: "توجد لكل مقام عراقي ثلاث مكونات معينة هي المقام أو النغم، والشعر المغنى فيه، والوزن الايقاعي المستخدم في المقام" (من محاضرة له في لندن سنة 2004).
هذا يعني أن هناك خلط بين مصطلحي "المقام" وهو "السلم الموسيقي" وبين مصطلح المقام العراقي وهو شكل موسيقي مؤلف. فالمقام العراقي هو عمل موسيقي محدد يتكون من السلم الموسيقي (المقام أي النغم وما يسمح به المقام المقصود من انتقالات بين المراكز النغمية) والنص الشعري والبناء الايقاعي، يؤلفه قارئ مقام شهير وخبير. أي أن المقام العراقي هو شيء أشبه بالأوبرا، فهي كذلك تتألف من الموسيقى (بضمنها البناء الايقاعي) والنص الذي يؤلفه كاتب الليبرتّو. الفارق الأول هو معرفتنا لشخص مؤلف الأوبرا وجهلنا باسم مؤلف المقام (في أغلب الحالات). الفارق الثاني وهو الأهم، هو ارتجال المقام موسيقياً من الذاكرة لعدم وجود التدوين، بينما تؤدى الأوبرا استناداً الى المدونة الموسيقية التي يكتبها المؤلف. بالمقابل يشترك المقام والأوبرا في خاصية مهمة، فمثلما لا يتشابه عرضان لنفس الأوبرا بسبب اختلاف رؤية قائد الأوركسترا ومخرج العمل وكذلك المزايا الشخصية والقدرات الفنية للمغنين رغم كل التزامهم بالنص المدون، لا تتشابه قراءتان لنفس المقام لذات الأسباب: فكل قارئ "يترجم" العمل وفق رؤياه وقدراته الفنية والصوتية وحتى مزاجه في تلك اللحظة.
المقام العراقي تكثّف في الأغاني منذ أواخر العشرينات بفضل عبقرية الموسيقار صالح الكويتي (1908 – 1986)، فقد استعمل شكل المقام العراقي في بناء أغانيه التي احتوت الكثير من مفردات المقام، بذلك يعتبر الكويتي مؤسس الأغنية العراقية الحديثة.
_____________
مقام اللامي – محمد القبانجي تسجيل المانيا 1928 بمصاحبة تخت عزوري هرون (قانون: يوسف مير زعرور الصغير، العود. عزرا اهارون العواد، الكمان: إسكندر الكمانجاتي). حسب الرواية ارتجل محمد القبانجي هذا المقام أثناء سفرته في ألمانيا بعد سماعه خبر وفاة والده، وأن العازفين في التخت لم يسمعوا بهذا المقام فاعتبر مقاما جديدا.