لطفية الدليمي
الإبداع الحقيقي لايقترن إلا بالنفوس الهادئة المكتفية بشغفها: هذا ماتعلّمته من خبرة عقود في الحياة والكتابة، وأراني كلّما قرأتُ نصاً أو كتاباً مترجما للدكتور ( علي عبد الأمير صالح ) أجد ما يعزّزُ قناعتي السابقة. فهو الهادئ حدّ الإختفاء والمثابر الشغوف بعمله حدّ الزهد بما عداه ، ولاعلامة تنبئ عنه سوى أعماله تأليفاً وترجمة .
بمتعة كبيرة قرأت سيرة ( فريدا كاهلو ) التي نشرتها ( دار المدى ) أخيرا وترجمها الدكتور ( علي عبد الأمير صالح ) ترجمة أنيقة ودقيقة معززة بالهوامش التي أغنت السيرة بالشروحات والإحالات والتعقيبات المهمة. وقد أعادتني هذه القراءة الممتعة إلى ترجمات أخرى مهمة لعناوين بارزة في الثقافة العالمية أنجزها الدكتور علي في مقدمتها رواية العمى لساراماغو ورواية في أميركا لسوزان سونتاغ ودلتا فينوس لأناسيس نن ورواية طبل من صفيح لغونتر غراس وجبل السحر لتوماس مان، مما يشير إلى الدور الثقافي المهم الذي يقوم به طبيب الأسنان والروائي والناقد والمترجم على عبد الأمير صالح الشغوف بعمله حد التفاني .
كم لدينا من المثقفين المنتجين الكبار الذين أغنوا مشهدنا الثقافي بنصوصهم وترجماتهم القيمة لكنوز عالمية وقدموا خلاصة جهودهم للقراء غير معنيين بالتنافس المحموم والسعي وراء الشهرة التي ينالها مترجمون أقل إنجازا وأهمية على المستوى العربي .
معرفتي بجهود الدكتور ( علي عبد الأمير صالح ) ليست حديثة العهد ؛ فقد سبق لي بحُكم عملي في المجال الثقافي، أن أطلعت على بواكير نتاجه الأدبي عندما كنت أعمل في مجلة الطليعة الأدبية ثم مجلة الثقافة الأجنبية، وعرفت فيه الدأب والهدوء وعدم إستعجال النشر، ولعل تدريبه العلمي وتكوينه المهني - ربما- قد ساهما في تعزيز خصائص الهدوء والتفكّر والإنجاز المتأني لديه وساعدا بهذا القدر أو ذاك في ترسيخ رصيده الثقافي والترجمي خلال العقود الثلاثة الماضية التي عمل خلالها بهدوء الزهاد الذين يقدمون عطاءهم بتفانٍ يستحقون عليه التقدير والتوقير .
يُعرَفُ عن الدكتور ( علي عبد الأمير ) خصائص أولها ولعه بالمطوّلات من الأعمال الترجمية التي تتطلّبُ جلداً ومصابرة ( من أمثال رواية " طبلٌ من صفيح " و " جبل السحر " للروائي الألماني توماس مان ) و ثانيها شغفه بترجمات تتقلّب بين أقصى المديات المعرفية ولاتتحدّد في جانب معرفي ضيق النطاق ذي لون واحد؛ فهو يترجم الروايات والسيرة والدراسات الثقافية والمصنفات السياسية ( الأقرب إلى الأعمال التوثيقية ) والنقاشات الحوارية فضلاً عن أعماله الإبداعية الخاصة في ميدان الرواية والقصة القصيرة . ثالث هذه الخصائص هو الإنضباط الصارم في هيكلة النص وإخراجه وإثرائه بالهوامش والإيضاحات التعريفية التي تشكّل إضافات ممتازة للنص المترجم بحيث تغدو كلّاً واحداً عضوياً متماسكاً لدعم قوة النص وسطوته المعرفية لفائدة القراء المعنيين .
يرى الدكتور ( علي عبد الأمير ) في الأدب مسعى خلاصياً على الصعيدين الفردي والجمعي، وأجدني متفقة معه في هذا التعريف للمسعى الأدبي النبيل، وأحسبُ أنّ كلّ المناشط المعرفية التي يعمل في فضائها المشتغلون في عالم الفكر إنما هي مناشط يحفّزها حسّ متسامٍ بعيد عن كلّ الأطماع الدنيوية المعروفة .
الدكتور ( علي عبد الأمير صالح ) شخصية ثقافية عراقية، مفعمة نبلاً وهدوءً والتزاما بالعمل الجاد المتصل ومن غير ضجيج في عالم صخّاب تعلو فيه فقاعات زائلة ؛ وهو لأجل كل ماسبق يستحقّ التقدير والإشادة فضلاً عن قراءة أعماله الممهورة بختم صناعته الماهرة .