TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > المعلم العراقي من (الأفندي) إلى سائق أجرة!

المعلم العراقي من (الأفندي) إلى سائق أجرة!

نشر في: 29 فبراير, 2020: 06:40 م

 د.قاسم حسين صالح

كان الزمن الذهبي للمعلم هو النظام الملكي..ففيه كان يلقب بـ(الأفندي) لأنه ارتدى الزي الأوروبي ولوضعه الاقتصادي المعتبر. والأهم..لأنه كان يحظى بالاحترام والاعتبار الاجتماعي..ويعدّ القدوة في الثقافة والاخلاق والسلوك..وكان في ذاك الزمان ينظر اليه كما لو كان (رسولا) المقترن بتكريمه من قبل النبي محمد الذي قال (إنما بعثت معلما).

عن ذلك الزمن اذكر لكم حادثة واقعية تعكس كيف كانت للمعلم هيبة واحترام في خمسينيات القرن الماضي.كنت تعلمت التدخين بعمر(12)سنة..لأنني كنت ابن ديوان،وكان الجالسون كثيراً ما يكلفونني باشعال سجائرهم( عمو قاسم..ورّث هاي الجكارة من الموكد..موقد القهوة يقصدون).وفي أحد الأيام كنت واضعاً السجارة بفمي وأمشي متبختراً في احد شوارع قريتي (آلبوهلاله)..وهب..وإذا أنا ومعلمي وجهاً بوجه. لم أرمها..بل ضغطها براحة يدي واطبقت كفي على جمرتها.

هكذا كنا نحن تلاميذ ذاك الجيل وما قبلنا..نحترم المعلم ونهابه ونخافه أيضاً..وبقي يحظى بالاعتبار الاجتماعي والكفاية الأقتصادية في زمن الجمهورية الأولى.وكان في سبعينيات القرن الماضي يعيش وضعاً اقتصادياً جيداً أيضاً.اذ كنّا يومها نجوب بلدان أوروبا الشرقية في العطلة الصيفية بألف دولار ونعود محملين بالهدايا..الى الثمانينيات التي شكلت بداية تدهور مكانة المعلم..وتحديداً..يوم أجبر على الالتحاق بالجيش الشعبي،ثم تلته الضربة الأوجع في زمن الحصار (1991-2003)..ففيه كان راتب المعلمة لا يساوي ثمن حذاء لها..وساء الحال الذي اضطر كثيرون الى فتح (بسطيات) في الشوارع،ووصل الأمر الى أن بعض الناس كانوا ينظرون للمعلم بعين العطف والشفقة..والتصدّق عليه( خطية..معلم!).وانمحت هيبة المعلم..واضطر هو الى أن يهدر بقيتها بقبوله هدايا(رشاوى) من الطلبة.

في أواسط التسعينيات..أجريت دراسة ميدانية عن التخلخل في المكانات الاجتماعية والاقتصادية تبين منها أن الأستاذ الجامعي الذي كان يحتل المرتبة الرابعة في قمة هرم المكانة الاقتصادية في المجتمع،تراجع في زمن الحصار الى المرتبة الرابعة والعشرين،وتراجعت مكانة المعلم الى المرتبة ما قبل الأخيرة بنقطتين!.وحدث في التسعينيات أيضاً أن اضطر الأستاذ الجامعي الى أن يعمل سائق أجرة بسيارته الخاصة،واضطر آخرون أن يبيعوا أعز ما يملكون..مكتباتهم.

وتعد السلطة أو الطبقة السياسة الحاكمة هي التي لها الدور الأكبر في الأساءة الى المعلم..بدأها النظام الدكتاتوري في ثمانينيات القرن الماضي بزج الأستاذ الجامعي في الجيش الشعبي..وتبعه (النظام الديمقراطي) بالتمييز الطائفي لدرجة أن الحال وصل بأحد الطلبة في كلية آداب بغداد وبالقسم الذي كنت أدّرس فيه، أن دخل القاعة الدراسية وسحب الأستاذ من سترته وأخرجه..وأهانه أمام طلبته.ومثل هذا..وأشنع..حدث كثيراً لمجرد أن الطالب يتمتع بسلطة الحزب الفلاني.ومع أننا في أكثر من مؤتمر طالبنا أن تكون المؤسسات التربوية بعيدة عن السياسة..واتخذت فعلاً بعض الاجراءات إلا أن تأثير الأحزاب الإسلامية بخاصة، ما زال موجودا،وما تزال الطائفية فاعلة على صعيد وزارة التعليم العالي تحديداً...فحين يتولى الوزارة (سنّي) تكون في حال وحين يكون الوزير (شيعياً) تكون في حال آخر.

وللتاريخ..في نيسان 2012 وبدعوة من مكتبه،جرى لقاء شخصي مع وزير التعليم العالي السيد علي الأديب وعرض عليّ العودة الى بغداد مع تلميح نقله لي ملحق ثقافي كان حاضراً اللقاء بأسناد موقع اكاديمي كبير لي..فشكرته واعتذرت. وفي نهاية اللقاء أسديت له نصيحة قلتها له بالنص: إن سيكولوجيا السلطة في العراق عودت المحيطين بالمسؤول أن يقولوا له ما يحب أن يسمعه..وأخشى أن يكون المحيطون بك من هذا النوع لاسيما وأن بينهم من هو حديث الخبرة(بينهم طلبتي!)..وعليه اقترح على جنابك تشكيل هيئة مستشارين بدرجة بروفيسور من الاختصاصات العلمية والإنسانية على ان يكونوا مستقلين سياسياً.(موثق في كتابنا..كتابات ساخرة ص 17)..ولم يأخذ بها..وتردى حال التعليم الجامعي في زمنه وزمن من بعده بعد أن كان يتصدره على مستوى العالم العربي.

ثمة من لا يدرك أن دور المعلم يتعدى نشاطه في المدرسة،فبين المعلمين من هم مفكرون وأدباء بارزون وفنانون مبدعون،بل إن الكثير من القادة السياسيين الوطنيين كانوا في الأصل معلمين!..وكان المعلمون يشكلّون النسبة الأكبر من السجناء السياسيين!..ما يعني أنهم بناة مجتمع..وتلك حقيقة أدركها هتلر الذي استثنى المعلمين من زجهم في الحرب،ولما سئل لماذا؟ أجاب..إنهم هم الذين سيعيدون بناء المانيا بعد الحرب. وقبله كان الحكيم كونفوشيوس قد قسّم المجتمع الى ثلاث طبقات:الحكّام، الشعب، المعلمون..وأوصى بالعناية بالطبقة الثالثة لأنه بصلاحها يصلح المجتمع.

ما المطلوب لأعادة دور المعلم وتفعيل رسالته في توعية المجتمع وبناء الوطن؟

الأول:أن تبتعد السياسة عن المؤسسات التربوية؟

الثاني:أن يتولى مسؤولية وزارتي التربية والتعليم العالي تربويون وأكاديمييون أصحاب اختصاص..وليت يتولى التعليم العالمي اكاديمي بروفيسور..مسيحي!

الثالث:أن يصادق البرلمان على قانون يحمي المعلم ويرعاه.

الرابع:أن يعمل المعلم ذاته على إعادة الاعتبار لنفسه وأن يكون بمستوى (كاد المعلم أن يكون رسولا) .

هل ترتقي السياسة ويرتقي المعلم نفسه الى إدراك أن معظم التحولات الايجابية وقادة التغيير في العالم كانوا معلمين..وأن نعمل جميعاً على تفعيل دور المعلم العراقي..الذي يحتاجه الآن في زمن المحنة؟

في اليابان تقليد لطيف:في كل مناسبة تخرّج يجلس المعلمون ويضعون أرجلهم في "طشوت" ويقوم الطلبة بغسل أقدام معلميهم. هل يعملها طالبنا؟.مستحيل!..بس عالأقل من يشوف المعلم..خل يخفي الجكاره!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تعطيل الدوام غداً في ذكرى النصر على داعش

الخطوط العراقية: 1523 رحلة و214 ألف مسافر خلال تشرين الثاني

العدل: تأهيل 3000 حدث خلال عامين وتحديث مناهج التدريب وفق سوق العمل

إيران تكشف لغمًا جوّيًا يصطاد الطائرات المسيّرة من السماء

هيئة الرصد تسجل 8 هزات أرضية في العراق والمناطق المجاورة خلال أسبوع

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram