TOP

جريدة المدى > عام > الفرات والراين وكونتر غراس

الفرات والراين وكونتر غراس

نشر في: 2 مارس, 2020: 06:35 م

نعيم عبد مهلهل

يذهب جلجامش الى فم الأنهار ليجد ضالته في الخلود ، وعندما لايجد الضالة أو يجدها وتسرق منه في غفوة نعاس فيسكنه الشعور بالعطش فليتجأ الى النهر ويشرب من ماءه

ليغادر ظمأه وتتجدد الحياة فيه على أملٍ وقناعةٍ أنَ العمر لايخلده تناول عشبة أو تفاحة أو أي اكسير موصوف بأوراق العرافين أو حكايات الأساطير بل العمر الخالد أن تكون قناعاً بحياتكَ ومنجزك وما منحت من أجل أهلك وناسك وأصدقائك وبشريتك .

أمتلكُ هذا الشعور وأنا استمع الى نادلٍ من أهلِ طنجة في واحدة من المقاهي المطلة على نهر الراين في مدينة دوسلدورف الالمانية وهو يشتغل في هذه المقهى نادلاً منذ أكثر من عشرين عاماً : أن الروائي الالماني والحائز على جائز نوبل غونتر غراس كان يجلس هنا ويتأمل في نهر الراين بعمق وهو ينفثُ من فم دخان عليونه الغامق لأكثر من 3 ساعات في تأمل غريب ثم ينهض صامتاً وقد ترك على طاولة ثلاثة ماركات ثمن فنجان قهوته المكسيكية السوداء وماركين البقشيش الذي تعودته منه.

جلسة غونتر غراس وفي ذات المكان أعادتني الى تأمل قديم لنهر لأكثر عراقة وأسطورية وحلم من أي راين في هذا العالم .الفرات الذي يُنَصفُ مدينتي ( الناصرية ) الى جانبين أيسر وأيمن ، أيسر هو الجانب القديم والفقير والأيمن الجانب الحديث وربما الأكثر غنى ، وحتماً أنا ولدت الجانب الايسر حيث المحلات القديمة والفقيرة ( السيف ، الشرقية ، السراي ، قرية فرحان ، شارع عشرين ) احياء يسكنها النمط الأكثر اقترابنا من النهر والحلم وصناعة ثوب الزمن بخيوطٍ من القناعة والأمل والأحلام حيث يقربهم النهر الى ضفاف المُنى والقناعة والصبر .

هو يمضي والعيون خلفهُ لكنه لايبتعد كثيراً عن مُريديه ، جلاس المقاهي وأصحاب ثمالة المسنايات والمتنزهون على امتداد الرصيف المحاذي للضفاف من نقطة الجسر الحديدي حتى نهاية محلة الصابئة ، كل خطوة توسمها ذكرى وجمال عابرة ترنو اليها عيون العاشقين وتدون لها بهجة القصائد فيما يصحح النهر تفعيلتها وأغلاطها النحوية والاملائية ، لتكون كما مصابيح القلوب كلما علاها الغبار يغسلها النهرُ بنبضه.

بين نبض النهر ونبض قلبي وجلجامش وكونتر كراس ، أجلس على أرائك الراين معتمراً معطف غربتي في أزل الوحدة وحزن أن يكون نهر الراين هو نهر الفرات فتشرب منه ليكون خلودك هناك مع الأغاني والقبلات وعناوين دروس الانشاء ونبؤات الآباء بما قد يأتي ويذهب وفي النهاية جلبتنا الحروب الى ساحاتها وأخذتنا القطارات الى منافيها وعندما يجتمع المنفى مع الحرب تتحطم الأرواح قبل الأجساد ونقع في دائرة الدمعة والمحظور فلا تنفعنا حدائق الجنة هنا ، ولا جمال الإناث الشُقر ولا سهولة الحياة .

الأصعب الجميل هناك قرب مدارج الذكريات والنبض الذي لايصنع موسيقاه سوى صوت الموج وعطر تواريخ مدن الجنة والنخيل وطفولة الجنود قبل أن تنحرهم شظايا الحروب.

أسراب النوارس والجسور ورائحة القهوة والسفن الآتية من هولندا تحمل بضائعها من الورد ، وآخرى آتية من شمال السويد تحمل فراء الدببة والثعالب ، وهناك في الفرات البعيد لايمخر في عباب الموج سوى أجفان زرقة السماء وزوارق صيد وهي تبحث عن مواويل ليل يأتي مع الشبوط والكطان والخشني والكارب ، فيأتيَّ ومعهُ يأتيْ رزق الفقراء وتنانير الشواء وليل السمراوات اللائي يشبهن دهشة أميرات سومر يوم تلامس أجفانهن رسائل الحب.

فرات الناصرية وراين دوسلدورف .وغونتر غراس عطر المكان بين زمن وآخر .ويظل الحنين الى أول منزل هو الحنين الأصل...!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

انتقائية باختين والثقافة الشعبية
عام

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

د. نادية هناوي يُعدُّ ميخائيل باختين واحدا من النقاد الغربيين المهتمين بدراسة السرد الأوروبي الشعبي، لكنه في كتابه (أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وأبان عصر النهضة) يعد الأول الذي خص أعمال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram