TOP

جريدة المدى > عام > الروائي عبد الله صخي: مهمة الرواية تصحيح التاريخ ووضعه في سياقه المعتدل والعقلاني

الروائي عبد الله صخي: مهمة الرواية تصحيح التاريخ ووضعه في سياقه المعتدل والعقلاني

نشر في: 2 مارس, 2020: 06:38 م

حاوره: عامر القيسي

انتظر القاص والروائي العراقي المغترب في بلاد الضباب عبد الله صخي 29 عاماً قبل أن يغني المشهد الروائي العراقي برواية " خلف السدة "

التي انتشل شخوصها من قاع المجتمع المهاجر من الريف الى المدينة .شخصيات هامشية ..منسية أخرجها من ظلمة الذاكرة والتأريخ ..شخصيات فرضت عليه أن يمنحها كامل وجودها لتتحول رواية " خلف السدة" الى ثلاثية مكتملة الابعاد بـ " دروب الفقدان " و "اللاجىء العراقي" التي قدّمت لنا لوحة روائية عن زمن كاد أن يكون منسياً.

- ما الذي أتى بك إلى عالم الرواية منتقلاً إليه من عالم القصة القصيرة بعد مجموعتك القصصية " حقول دائمة الخضرة " التي أصدرتها عام 1980؟

* منذ بداياتي كنت مولعاً بالرواية فقرأت منها أكثر مما قرأت من قصص قصيرة شأن العديد من الكتاب. لكن تلك الفترة، وأقصد أواسط السبعينيات، كان للقصة حضور طاغٍ في الحياة الأدبية العراقية رغم اهتمامنا بالنتاج الروائي العربي. استمر الأمر كذلك حتى مغادرتي العراق. في آخر المنافي، كتبت بعض القصص القصيرة. وفي لحظة ما شعرت أن المساحة التي أتحرك فيها ضيقة فيما تمور أحداث ضخمة في روحي. يومها كان العراق ينأى بعيداً، ولم يعد ثمة أمل بعودة قريبة فلجأت إلى الرواية لأعيد بناء ذاكرة مدينة.

- كتبت الرواية وأنت في المنفى فأصدرت رواية "خلف السدّة " بعد 28 عاماً من الانتظار. هل كان هذا الانتظار أو الصمت عن كتابة الرواية ضرورياً حتى تكتب سردية السدّة؟

* كلا، لم يكن ضرورياً إنما حياة المنفى فرضت علي الانتظار. بدأت أفكر في كتابة "خلف السدة" بعد نحو خمس سنوات على مغادرتي العراق، أي عام 1984، لكني تأخرت في إنجازها سنوات طويلة ولم تنشر حتى أواخر عام 2008 لظروف تتعلق بشروط المنفى القاسية وبحياتي الشخصية.

- تحولت رواية "خلف السدّة " إلى ثلاثية فقد تبعتها بإصدار روايتين "دروب الفقدان" و "اللاجئ العراقي" هل كان هذا مخططاً له أم أنه جاء في سياق رصدك لمرحلة تاريخية محددة؟

* لم يكن مخططاً له أبداً. جاءت فكرة كتابة الجزأين الثاني والثالث استجابة لرصد القراء بأن نهاية الجزء الأول ظلت مفتوحة، وسألني البعض ما إذا لدي جزء ثان قلت: أفكر في الأمر. وسرعان ما خطرت لي مواصلة حياة الشخصيات نفسها التي كانت في الجزء الأول مع إضافة شخصيات جديدة. كتابة الجزء الثاني "دروب الفقدان" استغرقت ثلاث سنوات. أما الجزء الثالث "اللاجئ العراقي" فاستغرقت كتابته سنة واحدة.

- رغم أنك كتبت هذه الثلاثية، إذا كان التوصيف صحيحاً، في المنفى إلا أن مساحتها الزمانية والمكانية كانت ربما تحت وطأة الموضوع الذي هو الهجرة من الريف إلى المدينة ثم الخارج؟ كنت محلياً جداً كما يقول بعض النقاد

* لم تأت المحلية عرضاً أو مصادفة بل كنت أقصدها. لقد تلقيتها من أساتذتي الكتاب الذين برعوا في استخدامها، مثل نجيب محفوظ، غائب طعمة فرمان، فؤاد التكرلي، والكثير من الكتاب الأجانب. المحلية هي روح الأدب. من المحلية ننطلق إلى آفاق أرحب. ألم تكن رواية "النخلة والجيران" محلية؟ أليست "الشراع والعاصفة" محلية؟ ألم تكن "الرجع البعيد" محلية؟ أو رواية غارسيا ماركيز "حب في زمن الكوليرا"؟ إذا لم يكتب الروائي عن روح بلاده عن ماذا يكتب؟ المحلية أولاً

- منذ عام 1979 وهو عام خروجك من العراق، فترة زمنية طويلة، لكن ثلاثيتك تبدو عصيّة على تأثرها ببيئة المنفى. هل كنت تقاوم هذا التأثير أم أن انغماسك بالمرحلة التي كتبت بها الثلاثية كان اقوى من أي تأثير؟

* نعم كان انغماسي في المرحلة التي تناولتها أقوى من أي تأثير. المنفى كان مجرد مكان، مأوى، ملاذ، أما تفكيري وانشغالي ومشاعري كانت دائما تتجه إلى هناك، إلى حيث ولدت ونشأت. هناك تاريخي الأول وذكرياتي الأولى الحميمية والأليفة.

- ألم تقل بأنك قاومت المنفى بتشييد وطن خيالي، كيف يمكن تفسير ذلك؟ وأنت تعتقد بأن خروجك من العراق كان بمثابة دخول في ضباب المتاهة، ألا يبدو الأمر ملتبساً؟

* لا، أبداً، ليس هناك التباس، بل تداخل وانسجام. المتاهة هي التي ضعت في طرقاتها الضبابية، هي التي دفعتني لبناء وطن خيالي يساعدني على تحمل قسوة المنفى ويسهل علي مهمة إعادة بناء الحياة في ذلك الوطن البعيد القادم من بؤرة الأحلام والتصورات 

- هل قلت كل شيء بثلاثيتك فيما يتعلق بالمرحلة التي كتبت عنها وهي ربما من خمسينيات القرن الماضي حتى منتصف ثمانينياته، هل انتهيت من بوح كل ما فيها؟

* أشعر أني لم أقل كل شيء عن تلك المرحلة التراجيدية الغنية الخصبة بأحلامها وعذاباتها وبالشخصيات التي عايشتها وعرفتها عن قرب. كتبت عن فترة تمتد بين الثلاثينيات وأوائل الثمانينيات وما أزال أتذكر شخصيات تركت أثراً ما في حياتي وحياة جيلي. إنهم يأتون إلي في يقظتي فأسألهم وأحاورهم، أحزن معهم وأفرح معهم. إني أنتظر اكتمال مجيئهم واحداً واحداً لأعيد كتابة ما كتبوه في أرواحهم الملتاعة المعذبة.

- تبدو في سرديات الثلاثية كما لو أنك تلجم جموح السرد الروائي من الانتشار والتوسع، أي كنت ميالاً إلى تكثيف الأسلوب على حساب الانفلات السردي، إلى أي مدى تتفق أو تختلف مع هذا التوصيف؟ 

* نعم، صحيح تماماً بخصوص الجزء الأول "خلف السدة". ففي هذا الجزء كانت هناك مساحة كبيرة للقارئ كمؤلف مشارك بوسعه إكمال ما هو خفي بقوة خياله التي يمهد لها النص المكتوب. يومها كنت مولعاً بالاختصار والتكثيف انطلاقاً من معاينتي لتماثيل جياكوميتي وولعي بها، كم هي نحيلة وغارقة في دلالاتها! لقد أدركت فيما بعد أن "خلف السدة" جاء كحجر تأسيسي سوف تنبني الثلاثية عليه. في الجزأين الثاني "دروب الفقدان" والثالث "اللاجئ العراقي" أصبح للتفاصيل وللتوسع السردي مداه الطبيعي. هنا خلقت الأحداث المجتمعية فضاءها الناتج عن استقرار السكان في مدينتهم الجديدة والتسلل إلى العاصمة لا كشغيلة وكسبة فقط إنما كعمال وموظفين وضباط وفنانين. اتسع النص للكثير من التفاصيل اليومية التي وفرتها المدنية الناهضة

- تبدأ رواية "دروب الفقدان" بمشهد إعدام نايف الساعدي الذي أنقذ امرأة شيوعية من قبضة السلطة التي كانت تلاحق الشيوعيين وتنتهي بموت الأم البطلة حزناً على غياب ولدها في السجن... ما دلالة المشهدين ...فقدان الأمل، نوع من أنواع العبث الحياتي؟

*منذ أن فطنت على هذه الدنيا لاحظت أن بلادنا تزدحم بالكوارث إما طبيعية كالفيضانات أو من صنع الإنسان كالحرائق والسجون. يرافق ذلك الموت بأنواعه المتعددة، موت الأطفال بسبب الأمراض، موت المعتقلين في الزنازين، وموت آخرين في ساحات الإعدام. حول المشهدين اللذين ذكرتهما في السؤال لا أتفق مع توصيف "العبث الحياتي" بقدر ما أوافق على "فقدان الأمل"، ذلك أن مشهد الإعدام يقابله وفاة البطلة كلاهما فقدان مؤلم ومضن. إنه نتيجة لسياسات قمعية استبدادية هدفها إخافة الإنسان وتركيعه وجعله يقبل بكل ما يطلب منه. لا حق له في التعبير عن رأيه، لا حق له في التظاهر، لا حق له في رفع صوته أمام شرطي فكيف إذا واجه سلطة دكتاتورية تعمل على سحقه ليل نهار. إن تعبير "فقدان الأمل" سيتجلى بوضوح أكبر في الجزء الثالث "اللاجئ العراقي" حين لم يعد الوطن كقيمة مكانية وروحية إنما ذكرى. كان يبتعد في عين البطل ويغيب.

تبدو ثلاثيتك كنوع من أنواع الأرخنة السياسية بروح الأدب وأسلوبيته وافتراقه اللغوي. ما علاقة التاريخ بالرواية ...إذا كان التاريخ مزيفاً ما الذي ستفعله الرواية؟ 

* إذا كان التاريخ بمعنى وقائع وأحداث فالرواية تعتمده كوسيلة لتقديم رؤية عن الحياة في مرحلة زمنية معينة. بلزاك يرى أن الرواية حليف التاريخ. لقد تناولت أحداثاً في سياقات زمنية معروفة للقارئ. أما غير المعروف فهو تركيب تلك الحوادث وتشييدها في معمار أساسه الواقع والخيال. إذا كان التاريخ مزيفاً، هنا تقصد التاريخ كماض، كأحداث تاريخية في أزمنة غابرة من المستحيل فحص مصداقيتها، ستكون مهمة الرواية تصحيح التاريخ ووضعه في سياقه المعتدل والعقلاني استناداً إلى الهدف المتوخى من العودة إلى الماضي السحيق. ولدينا أمثلة على ذلك رواية "قصر الذئاب" لهيلاري مانتل التي تناولت صعود كرومويل رئيس وزراء هنري الثامن، والصراعات السياسية في ديوان الملك، أو رواية "مذكرات أدريان" لمارغريت يورسنار. ويحدث أن تزيّف الرواية التاريخ، كما يرى بعض النقاد الذي وجهوا انتقادا لاذعا لأبرز كتاب الرواية التاريخية والتر سكوت إذ قال أحدهم: "كل هذه الصور من الماضي البعيد التي يعرضها صور زائفة، ليس فيها صحيح سوى الملابس والمناظر والمظاهر الخارجية". على العموم لا يمكن الفصل بين الرواية والتواريخ كأحداث. فلو تناولنا فترة الاحتلال البريطاني للعراق ثم تأسيس الدولة العراقية الحديثة مروراً بثورة العشرين سنعتمد على التاريخ، ولكن في النسق الذي يخدم وجهتنا، رسالتنا، هدفنا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram