TOP

جريدة المدى > عام > العتبات النصية من المنظور السيميائي أو السيميولوجي في كتاب رحلة يراع

العتبات النصية من المنظور السيميائي أو السيميولوجي في كتاب رحلة يراع

نشر في: 3 مارس, 2020: 07:38 م

محمد زينو شومان*

يقول مكسيم غوركي :" التاريخ لا يكتبه المؤرخون بل الفنانون هم الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان ".

شئت أن أبدأ بهذا القول للأديب الروسي الكبير غوركي لاتفاقه من حيث المضمون مع موضوعات كتاب الصديقة الصحافية والروائية والكاتبة المتبحرة ضحى عبدالرؤوف المل رحلة يراع" وخصوصاً إنها تتعلق بأعمال كثير من الروائيين والكتاب اللبنانيين والعرب والعالميين. وهم بحسب مقولة غوركي من المؤرخين الحقيقيين لحياة البشر على اختلاف جنسياتهم وأعراقهم الأثنية وألوانهم وطبقاتهم الاجتماعية على هذه الأرض. 

ولا ريب أن هذه القراءات، على الرغم من قصرها ومحدودية مساحتها وحجمها، إلا أنها متشعبة الاتجاهات غنية وبعيدة الغور. وهي أساسا حصيلة جهد سنوات طويلة حتى ليصبح فيها القول إنها موسوعة أدبية . 

والواضح أن الرواية قد استأثرت بحصة الأسد من كتاب المل، ولعل ذلك لكونها أقرب إلى نفسها من بقية الأجناس الأدبية، ومع ذلك فقد شملت قراءاتها كتباً أخرى مختلفة عدا الرواية، منها ما يتعلق بالنقد الأدبي، الشعر ، والموسيقى فضلاً عن البحث الإجتماعي، والنقد التاريخي والمذكرات السياسية كمذكرات مديرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون " خيارات صعبة" . 

وكذلك تطرقت المل إلى أدب الحروب مع بضع مقالات عن الحياة الإجتماعية في ظروف المناطق الغامضة، ورمزية أدب الحرب في كشف دواخل الإنسان، ومبدأ الصدمة وسقوط الإنسانية، والفقر الثقافي وتحديات اقتصاد المعرفة، وأخيراً مفهوم الآخر . التي انتجها الترادف والتحالف بين المتحالفين. وأكتفي بهذا القدر لأن ضيق الوقت لا يسمح لنا في هذه العجالة بالتوسع في اصطلاح التأويل والترميز. 

ولكن الملاحظ، ما دمنا تطرقنا إلى العتبات النصية من المنظور السيميائي أو السيميولوجي، أن العرب كانت تكنّي عن المرأة بالعتبة! فكما أن العنوان يمثل المدخل الزمني أو عتبة الدخول إلى النص كمثل ما يمثل الباب الذي يفضي إلى داخل المنزل، كذلك المرأة وفقا للمأثور العربي، هي الباب الذي يدخل منه العربي إلى الخيمة أو الخباء. أي إلى قلب الوجود باعتبار الخيمة هي المكان المحمول. 

والحقيقة أن الرحلة اليراعية مع المل في كتابها هذا ممتعة ومفيدة جداً. إذ إنها لا تكتفي في عرضها للأعمال المقروءة بما هو مكشوف وظاهر للعيان وسهل الأصطياد ومرمي في الطريق أمام المارة. بحيث لا يجد القارىء العادي أو شبه المثقف أو ربع المثقف أي عناء في التقاطه عن الأرض هذا في حال كانت المعاني كما يزعم الجاحظ مطروحة في الطرقات ومباحة لعابري السبيل. بل هي ما تختزنه من ثقافة واسعة واطلاع واع على الآداب الغربية ومناهجها ومفاهيمها الفنية والنقدية الحديثة، فضلا عن موروثها العربي ولغتها الصحافية وأسلوبها السردي المبسط والواضح ، تذهب بعيداً في تقليب النص على جوانبه كلها واستنتطاقه والتوسع في استخراج كل مكنوناته بالنقد والتحليل والتشريح والمحاجّة والمساءلة .

ولعلها في ذلك، أي في قراءتها التشاركية، تقف إلى حد بعيد مع نظرية موت المؤلف لرولان بارت، من حيث إبراز دور القارىء وسلطته وأهميته في إعادة إنتاج النص ومحاكمته وفهمه باستخدام أدواته المعرفية والنقدية بحيث تتشكل هوية جديدة للنص تخرج من نار القراءة خروج طائر العنقاء أو الفينيق من رماده! 

ولكن شريطة عدم ضياع نسب النص أو فقدانه أباه الحقيقي. وإلا عمّت فوضى النقد وانهار البنيان المعرفي والنقدي على من فيه. ولا يخفى على المتابع والقارىء اللبيب كيفية إقبال المل على النص بذهنية المستطلع والمستكشف الذي لا يرضى بالنظرة الخاطفة، أو بالنظر بعين واحدة لأن الرواية تختلف باختلاف المكان أي مكان الرصد. ولعل أقرب مثال على توضيح هذه الصورة، هو مثال النسر والضفدع لينتشه. فالنسر بحسب نيتشه يرى الإنسان من فوق ضئيلاً جداً. والضفدع يراه على خلاف النسر من تحت ضخما جداً. والحق أن المل استطاعت مقاربة أعمال الكتّاب في " رحلة يراع" بالجمع بين نظرتي النسر والضفدع معاً . وهذا ليس رجماً بالغيب بل هو مرئي رأي العين. وهل يكذب البصر؟ لقد صالت المل وجالت على هدي وعيها النقدي وذوقها الفني والأدبي ورحابة فكرها الإنساني. 

ولا شك في أن تحررها من وهم النظريات المجردة، ومن أسر المناهج والأساليب المدرسية الصارمة، ومن قوالب التعبير التي لم يعد فيها أثر للحياة، فتح أمامها آفاق النص فاتسعت باتساع الرؤية. ألم يقل النفري: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة؟ وأوليست محنة النقد الإيديولوجي هي وقوعه في شرك القراءة النرجسية الوحيدة التي هي بإخضاعها كل قراءة مغايرة لمقياسها الأوحد أشبه بمحنة سرير بروكست؟!

وبعد هذا كله، علينا ألا ننسى أن وراء " رحلة يراع" كفاح امرأة مثقفة وعصامية هبت رياحها من الشمال، فكان عليها لقطع الخطوة الفاصلة بين الهامش والمتن، بين الحلم المستحيل والواقع، واليأس والأمل أن تعرف ما تريد وأن تبدأ الطريق . وبين الخطوة الأولى واللاحقة لم يكن يغيب عن بالها وعورة المطلب وصعوبة المآل. وإذا كان الناقد الفرنسي موريس بلانشو يرى أن الأول ليس بداية بل يسميه استثنافاً، فإن المل بدأت أو استأنفت رحلة يراع لتكسر كل جدران العزلة في كتاباتها، وفي نظرتها النقدية والإنسانية والثقافية والفكرية المتقدمة التي تكشف عن شمولية الرؤية وعمق التفكير وطول التجربة وسعة الاطلاع . 

وإذا كان لي أن أتحدث عن قانون الحجر ودوائر الماء، فإنما أقصد قانون الكلمة والفكر والمنطق لا قوانين الفيزياء والمادة والعلوم التطبيقية . فهذه الدوائر اللامتناهية التي تنداح في لجة كتاب " رحلة يراع لضحى عبدالرؤوف المل، إنما هي دوائر من حبر لا ماء، ومن أثر حجر من نوع آخر هو حجر الفكر أو ريشة اليراع! والحق إن المل ليس لطموحاتها ومشاريعها الثقافية والصحافية والأدبية من حدود جغرافية فاصلة بين كل هذه المناطق ذات التخوم المشتركة بل المتداخلة، وكأنما مبرر وجودها ومجالها الحيوي هما الكتابة ولا أدري من أي سوق تستدين أو تقترض حاجتها الناقصة من الوقت لكي تستمر الرحلة ويستمر اليراع . 

*كاتب لبناني

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram