تأليف : بول ديفيز- ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
لاأظنّ أن أحداً سيختلف معي بشأن حقيقة واضحة مفادُها أنّ العلم لم يزل في ثقافتنا العربية محض بناءات نظرية فوقية لم تتغلغل في نسيج الثقافة الجمعية العامة
التي تمركزت على أطروحات جدالية أو فلسفية لم تبتعد كثيراً عن نطاق الجدالات الكلامية العقيمة التي طبعت معظم مصنفاتنا الفكرية العربية . أما إذا إقترب الحديث من تخوم مايسمى ( الثقافة الثالثة ) التي صارت الخط الفكري السائد في الثقافة العالمية فإننا بعيدون بكيفية لايمكن وصفها إلا بأنها معيبة ومخجلة .
أقدّم في أقسام متسلسلة أجزاء منتخبة من كتاب علمي ثقافي مثير أنتهيتُ من ترجمته قبل شهور خلت ، وهذا الكتاب من تأليف البروفسور ( بول ديفيز ) ، وهو أحد الشخوص اللامعة في نطاق الثقافة العالمية .
بول سي. دبليو. دافيز Paul C. W. Davies : عالم فيزياء بريطاني ذائع الشهرة ، وُلِد عام 1946 ، وحصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء عام 1970 من كلية الجامعة University College قي لندن ، وهو مؤلف ومقدّم برامج ، ويعمل حالياً أستاذاً جامعياً في جامعة ولاية أريزونا ومديراً لمركز BEYOND ( مركز المفاهيم الأساسية في العلم ) . تولى مناصب جامعية أخرى في جامعة كمبردج وجامعة لندن وجامعة نيوكاسل وجامعة أديلايد وجامعة ماكواري ، وتنصبّ مجالات اهتماماته البحثية في حقل الفيزياء الكونية والنظرية الكمومية وعلم الفلك البيولوجي إلى جانب اهتمامه الشامل بتأريخ العلوم وفلسفتها .
نشر البروفسور ديفيز مايزيد على المائة ورقة بحثية في المجلات التخصصية في موضوعات الكوسمولوجيا والجاذبية ونظرية المجال الكمومي مع تأكيده الخاص على موضوعة الثقوب السوداء وأصل الكون . البروفسور ديفيز مولع كذلك بالبحث في الثقالة الكمومية ، وطبيعة الزمان ، وفيزياء جسيمات الطاقة العالية ، وأسس ميكانيك الكمّ ، وأصل الحياة ، وطبيعة الوعي .
يُعرفُ عن البروفسور ديفيز كذلك ولعه بالفن الكلاسيكي والمعاصر إلى جانب ولعه بتأريخ الحرب العالمية الثانية والسياسة والإقتصاد بعامة ، كما يحبّ دوماً أن يظلّ لائقاً من الناحية البدنية بممارسة التمرينات الرياضية بانتظام ، ويحبّ مناقشة الموضوعات الجغرافية أيضاً .
حصل البروفسور ديفيز على العديد من الجوائز ، منها : جائزة تمبلتون عام 1995 ، ميدالية كلفن عام 2001 ، جائزة فاراداي عام 2002 .
نشر البروفسور ديفيز العشرات من الكتب المختلفة ذات الطبيعة التقنية المتخصصة أو الموجهة للقارئ العادي .
المترجمة
2 . لِماذا وُجِد الكون؟ القسم الأوّل
" ثمّة سبب في الطبيعة يستوجبُ أنّ شيئاً ما ينبغي أن يوجد بدلاً من أن لايوجد "
لايبنز
" كلّما يبدو الكون أكثر إدراكاً من قبلنا فإنه يبدو أكثر إبتعاداً عن إمتلاك أي معنى أو غاية "
ستيفن واينبرغ
إنّ فكرة الإله الخالق الذي تسبّبت إرادته الحرّة في إنبثاق الكون إلى الوجود هي فكرة متجذّرة عميقاً في الثقافة المسيحية - اليهودية ؛ ولكن برغم ذلك فقد شهدنا في الفصول السابقة كيف أثارت هذه الفرضية معضلاتٍ أكثر من الحلول المفترضة التي جاءت بها ( لمعضلة خلق الكون ) حتى باتت هذا المعضلات محلّ نظر اللاهوتيين وتساؤلاتهم المكثّفة منذ قرون عديدة خلت، وتركّزت هذه المعضلة بشأن طبيعة الزمان؛ إذ نعلم اليوم أنّ الزمان مرتبط إرتباطاً جوهرياً بالفضاء ولاينفصل عنه بأي شكل من الأشكال، وأنّ بنية الزمكان جزء مادي جوهري من العالم الفيزيائي . سنستكشف بعمق أكبر في فصل قادم ( الخاص بمناقشة الزمان ) فكرة أنّ الزمان له قوانينه الخاصة للتغيير والسلوك ، وقد تمّ إثبات أنّ تلك قوانين جوهرية وأصيلة في الفيزياء بأكملها .
إذا كان الزمان ينتمي إلى الكون الفيزيائي ويخضع لقوانين الفيزياء إذن ينبغي أن يكون مُتَضَمّناً في الكون المادي الذي خلقه الإله ؛ لكن ماعساه المقصود بالعبارة القائلة أنّ الإله هو من سبّب إنبثاق الزمان إلى الوجود ؟ بقدر مايختصّ الأمر بفهمنا المعتاد للتسبيب والقائم على أساس أنّ السبب يسبق النتيجة فإنّ جوهر فعل التسبيب قائم على فعالية لاأزلية ( وقتية ) ؛ لذا ينبغي أن يكون الزمان موجوداً - بالفعل - قبل أن تحصل أية واقعة من الوقائع الفيزيائية ، وهنا يبدو الإنطباع البسيط المتخم بالسذاجة بشأن وجود إله قبل وجود الكون ذاته أمراً متقاطعاً مع العقلانية بشكل صارم مالم يكن ثمة زمان ؛ إذ ماكان ثمة " قبلَ before " قبل وجود الكون .
كانت أمثال هذه المعضلات واضحة - كما رأينا من قبلُ - لدى كلّ من سانت أوغسطين في القرن الخامس ، ثمّ أعاد بويثيوس* Boethius صياغتها في قرن لاحق ، وانتهت تلك الأفكار لكي تتطوّر إلى مفهوم " الخلق " بكيفية أكثر تجريدية وتعقيداً بأشواط بعيدة تماماً عن قدرة عامة الناس على الفهم والإستيعاب ، وترى هذه الرؤية التي جرى تهذيبها وصقلها على مرّ القرون أنّ الإله موجود خارج الفضاء والزمان كلياً - أي بمعنى يفيد أنه " فوق الطبيعة " وليس قبلها . إنّ الفكرة القائمة على مفهوم ( الإله الموجود وجوداً أزلياً ) ليست بالفكرة اليسيرة ، وسوف أؤجّل بحث هذه الموضوعة الجوهرية الخاصة بمفهوم الزمان وطبيعته حتى الفصل 9 الذي سيعالج هذه الموضوعة بكيفية أكثر تفصيلاً وعمقاً .
تعدّ فكرة الإله الماكث خارج إطار الزمان فكرة مكافئة للإعتقاد بإله ( يخلق ) الكون بالمعنى الذي يفيد ( تثبيت الكون ليكون موجوداً في كل برهة من الزمان ) بدلاً من فكرة الإله الذي خلق - ببساطة - الكون ثم إنزوى بعيداً عنه ليرقبه وحسب . تدعى فكرة الإله الفاعل في كلّ آن الألوهية Theism في حين تدعى فكرة الإله الذي خلق الكون وانزوى بعيداً عنه الربوبية Deism ، وبحسب هذا الفهم ترى الألوهية في الإله كينونة أزلية فاعلة في كل زمان وتضفي عليه إحساساً أعظم بالآنية والفعل التدخّلي المباشر ؛ فهو يرينا مظاهر فعله ( الآن ) و ( هنا ) ؛ لكن برغم ذلك يتلبّس غموض معقّد هذه فكرة " الإله الماكث فوق الزمان والمتعالي عليه " .
يمكن الإعتماد على مخطّط تصويري بسيط لتوضيح الأدوار البديلة للإله - الخالق الذي سبّب الخلق ، وكذلك الإله المدير لدفّة الكون ( بما فيه الزمان ) ، طبقاً للكيفية التالية : دعنا نتخيّل سلسلة من الوقائع التي يعتمد كلّ منها على سبب مسبّق ، ويمكن ترميز سلسلة الوقائع هذه بالرموز E1 , E2 , E3 ………… الممتدة في الزمان وبطريقة يُفهَمُ منها أنّ E1 تسبّبت في E2 وهذه بدورها تسبّبت في E3 ،،،،، إلخ . يمكن التعبير عن هذه السلسلة السببية بالشكل التالي :
هنا تشير E إلى الواقعة الفيزيائية Event ، و يشير L إلى قانون فيزيائي ما ، ويشير المخطط التصويري بأكمله إلى أنّ واقعة فيزيائية سبّبت واقعة أخرى طبقاً لقوانين فيزيائية معروفة .
إنّ مفهوم الإله مسبّب الخلق ( التي أسهبنا في بحثها في الفصل السابق ) يمكن توضيحه من خلال الإشارة إلى الإله بالرمز G ( الذي يشير إلى مفردة God ) وجعله السبب الأوّل في هذه السلسلة السببية وبالكيفية التصويرية التالية :
أمّا إذا كان الإله خارج الزمان فلن يمكن حينها إلحاقة بالسلسلة السببية هذه ، وبدلاً من هذا يُكتفى بجعله فوق السلسلة السببية ممسكاً بقوة بكلّ جزء من أجزائها كما يظهر في المخطط التصويري التالي :
يمكن تطبيق هذا المخطّط التصويري بشكل متكافئ سواءٌ على سلسلة سببية لها سبب أوّل ( أي لها بداية في الزمان ) أو على سلسلة أزلية ( مثل حالة الكون أزلي الوجود ) ، ولو إحتسبنا هذه الصورة ووضعناها موضع التفكّر العميق فسيبدو الإله هو السبب الغالب والمقبول كتفسير لنشأة الكون .
ليس أمراً يسيراً التعامل مع أمثال هذه الأفكار بل هو أمر تكتنفه المشقات المفاهيمية ، وأنا أتحدّث هنا على نحوٍ تقريبي فحسب . إنّ قوانين الفيزياء واضحة لنا من حيث كونها طريقة في حصول الوقائع في سياقات نظامية محدّدة Regularities : الحركة الدقيقة للكواكب وهي تمضي في أفلاكها المحدّدة لها ، النمط العادي للخطوط الطيفية لعنصر كيميائي ما ،،،،، إلخ . حين نضغط بقوة على مكابح سيارة متحركة نتوقّع بالطبع أن تبطئ السيّارة من سرعتها وقد تتوقّف عن الحركة ، وحين نشعل فتيل بارود نتوقّع أن ينفجر ، ونتوقّع أن تذيب شعلة حامية كتلة ثلج صلد ، ونتوقّع أن تتحطّم أنية زهور لو سقطت على أرض صلبة . العالَمُ إذن ليس عشوائياً أو غير خاضع لإنتظامات محددة بل هو - على أقلّ التقديرات - قابلٌ للتنبؤ وينطوي على درجة محدّدة من التنظيم الدقيق .
نعمل نحن ومن خلال منظورنا المحدود في بنية الزمكان على فهم هذه الإنتظامات الطبيعية من خلال تراتبية السبب - النتيجة ؛ فثقالة الشمس على سبيل المثال هي التي تجعل مدار الأرض ينحني (أي يتخذ مداره الإهليجي المعروف ، المترجمة ) لكن يبقى ثمة إحتمال بديل لأن يكون الإله هو سبب كلّ واقعة فيزيائية في كوننا من خارجه لأنه يرتّب الوقائع بعناية فائقة تكفل الكشف عن هذه الإنتظامات الطبيعية التي نراها .
يمكن اللجوء إلى مقايسة نظيرة لبيان هذا الأمر : دعونا نتخيّل على سبيل المثال شخصاً يصوّب على هدف ما مثبّت على شاشة أمامه، وفي الوقت الذي يطلق سلاحه على الهدف فإنّه يحرّك ذراعه بمعدّل ثابت من اليمين إلى اليسار وبكيفية تنطوي على شيء من التراتبية والثبات ، والنتيجة النهائية ستكون بالطبع نمطاً محدّداً من الثقوب المتتالية على الشاشة . إنّ هذا الأمر كفيلٌ بدفع مخلوق ما ذي بُعديْن يعيش بطريقة مستمرة على سطح الشاشة ( ولايغادرها إلى عالم آخر ذي أبعاد أخرى ، المترجمة ) إلى الإعتقاد أنّ تسلسل هذه الواقعة ( أي إطلاق النار وإحداث الثقوب في الشاشة ) إنما هي عرض نظامي لكيفية إحداث الثقوب في عالمه، وسينتهي بعد الملاحظة المتفحصة العميقة إلى حقيقة أنّ الثقوب ليست عشوائية أو فوضوية الترتيب بل تعرض نظاماً دورياً فضلاً عن كونها منظّمة بطريقة هندسية بسيطة للحفاظ على مسافات متساوية بين الثقوب ، ثم سيخلص آخر الأمر للإعلان - وبثقة كاملة - عن قانون جديد في الفيزياء الخاصة بعالمه المسطّح الذي يعيش عليه ويُمكن أن يسمّيه " قانون خلق الثقوب " ، وسيستنتج هذا المخلوق المسطّح ذو البُعديْن أنّ ظهور كلّ ثقب هو سبب لظهور ثقب ثانٍ بطريقة تنطوي على الإتّساق الدوري والنظام المنضبط، والنتيجة النهائية هي أنّ كلّ ثقب يتبعه ثقب آخر بطريقة يحكمها الإطّراد والنظام؛ لكنّ واقع الأمر أنّ ذلك المخلوق المسطّح الذي يعيش في سطحٍ ثنائي الأبعاد يغفل تماماً بسبب منظوره الضيق عن حقيقة إستقلالية كلّ ثقب عن الآخر ، وليس ظهور الإنتظام الدوري في ترتيب الثقوب إلّا واقعة ترجع لنشاط الرامي ورغبته فحسب . يمكن بالطريقة ذاتها توضيح العمل المنظّم الذي يحكم الكون بالقول أنّ إلهاً خلق كلّ واقعة تحصل في بنية الزمكان بطريقة فيها نوع من الإستدامة المنتظمة منطلقاً من منظوره الواسع ومن بُعدٍ فضائي يتعالى على أبعادنا الفضائية الثلاثة أو حتى ربما من بنية فيزيائية ليست فضاء بأيّ شكل من الأشكال، أو حتى من بنية أخرى ليست مادية بالكامل ( بأيّ معنى من المعاني الممكنة والمحتملة لهذا الأمر ) .
ماهو المسوّغ لإعتقاد مثل هذا ؟ تفكّر حولك في ذلك الهيكل المعقّد والتنظيم الفاتن الدقيق للكون ، ثمّ تفكّر بعدها في الصياغات الرياضياتية الأنيقة لقوانين الفيزياء، وامكث قليلاً وسط حيرتك وذهولك وأنت ترى ترتيب المادة وانتظامها ابتداءً من المجرّات المتحرّكة وحتى نشاط الذرة الشبيه بنشاط خلية نحل ، ثمّ تساءَلْ : لِماذا تبدو هذه الأشياء بالكيفية التي هي عليها ؟ لِماذا حصل هذا الكون ، ومجموعة تلك القوانين ، وهذا الترتيب للمادة والطاقة ؟ بل لِماذا يوجد في الواقع أيّ شيء على الإطلاق ؟
* فيلسوف وسياسي روماني عاش في الفترة ( 480 - 524 ) ، واشتهر بكتابه ذائع الصيت عزاء الفلسفة The Consolation of Philosophy الذي صار واحداً من أكثر الأعمال الفلسفية تأثيراً وشعبية في العصور الوسطى . ( المترجمة )