د. نادية هناوي
كثيرة هي الكتب التي حاولت الدخول إلى الأدب النسوي والخوض في حيثياته وقليل من ذلك الكثير أشرّ على نواح تستحق الوقوف عند فروضها وبراهينها ومحصلاتها،
لنتيقن من صحة ما تم افتراضه ومديات ما طُبّق منه عملياً وإجرائياً ونتوثق من ثم من دقة الاستنتاجات التي حصلت في نهاية المطاف. وليس مستغرباً إذا قلنا إن الناقد ليس جلاداً وفي الوقت نفسه ليس حكما وهو يهم بإخضاع النصوص الأدبية لمشرط النقد ومبضعه واضعاً إياها تحت مخبره بحرفية ومهنية عالية.. لكن المستغرب حقا أن لا يكون الناقد متنازلاً عن حكميته وتقديريته وفي ذات الوقت يكون مؤديا لوظيفة الجدل لا بمعنى اتخاذ الانفتاح مبدأ بل بمعنى امتلاك السطوة والنفوذ والاستحواذ والهيمنة مبدأً وعملاً ..
ولعل هذا ما يتجسد بشكل أكثر وضوحاً في نفر من النقاد والكتّاب من ممارسي النقد النسوي الذين قد تبدو عليهم المناصرة للكتابة النسوية عموما وللأدب النسوي تحديداً، رافعين شعارات التسوية والإعلانية والمكاشفة والنسوية والتعددية والتنوع والتصالح مقدمين طروحاتهم إزاء ما يقرأون من أدب يعدوه نسوياً.
ولعل المسألة ستبدو أكثر جلاء حين يكون الناقد رجلا والمنقود امرأة، وعندها ستكون نسبة تأدية المهمة النقدية رهنا بمقدار إدراك الناقد للوظائفية النقدية تجاه الآخر. ولا يعني هذا أن الناقد إذا كان امرأة والمنقود امرأة فان النسبة في التأدية ستتقلص أو تختفي إلى حدود دنيا؛ بل المقصود هو مقدار انشداد الناقد رجلا كان أو امرأة إلى الحاضنة المركزية الذكورية.
وتتحدد على وفق ذلك الانشداد تتحدد نسبة إنتاج نصوص نقدية تنظر إلى المرأة موضوعا مركزيا أو تنظر إليها ذاتا مقصية، كما سيتحدد دور الناقد؛ فأما أن يكون منضوياً تحت لواء الحاضنة الأبوية ومن ثم تكون الكينونة الأنثوية مغيبة في الآخر وهذا مكانه النقد الذكوري..وأما أن يكون متحرراً من مركزية الحاضنة ناظرا للمرأة كيانا وفاعلاً نصياً غير مغيب في الآخر وهذا مكانه النقد النسوي.
وقد يسعى النقاد إلى توظيف إمكاناتهم المتاحة في هذا السبيل بناء على مقصدية معلنة وأخرى مغيبة الأولى تشتغل في الظاهر والأخرى تعمل في الخفاء. الأولى تتجلى ببساطة منذ الوهلة الأولى ولذلك هي آمنة العواقب ولكن الثانية قد لا تتجلى إلا عبر الإمعان والتأمل واستفاضة النظر ومقاومة التبسيط الذي تستدعيه المقصدية الأولى. ومن هنا تبدو المقصدية المخفية والمتدارية أشد خطراً وأكثر تعتيماً ومخاتلة من المقصدية المعلنة والمجاهِرة.
من هنا وجدت نظريات النسوية والأنثوية والأنوثة والجندر والآخر مرتعها الخصب في النقد الثقافي الذي انبثق في مرحلة الانفتاح ما بعد الكولونيالي كي تصب معه في باب واحد هو التحرر والمساواة والانعتاق والتي تعد من الموضوعات الأثيرة عند مناصري النسوية والداعمين لتطلعاتها في المساواة والتحرر.
وليس في ذلك بذر لعقدة التفريق والانقسام بين كينونتين إنسانيتين شهدتا مغالبة وتسيّداً واستبداداً لأحداهما على الأخرى بل لأنها موضوعات تريد الانتصار للمرأة عبر إعادتها إلى وضعها الحقيقي الذي يتناسب مع تكوينها وطبائعها من جهة ويتواءم مع الاخر/الرجل من جهة اخرى، لكي يؤديا المهمة الأساسية وهي إدامة الحياة بالتجدد والنماء.
ومن هنا يحتم التصدي للأدب النسوي أو ممارسة النقد النسوي فرضاً لا اختياراً التحلي بمرجعيات ابستمولوجية وخلفيات شاملة مستمدة من مختلف التيارات والرؤى والمعطيات والأدبيات الإنسانية المندرجة تحت مختلف حقول المعرفة الإنسانية..
ولا غرو إن مثل هذه المرجعيات ستتيح للمتصدي للنسوية ودراستها كاتباً أو ناقداً أو باحثاً، امتلاك الأدوات التي بها سيكشف عن المغيب ويحفر في الأرض البكر ليجد المخبوء والمستور ويسفر عن المجسات التي تبدد العتمة وتجعله يرى الأقبية أو الحجابات رؤية واضحة جلية.
وبما يجعل صاحب تلك المرجعيات متحرراً من تاريخية الذكورية وأيديولوجياتها المهيمنة، مستعيداً ذلك الحس الفطري الذي جبلت عليه النفس الإنسانية وهو محبة الآخر والنظر إليه على أنه كل لا جزء وفاعل متفاعل وواضع لا موضوع.
وعند ذاك سيرى الناقد أنه قد ولج ما كان ظلاماً وصحح مساراً كان معوجاً جاعلاً المُرائي مشاهداً على حقيقته بألوانه وحجومه ومساحاته رؤية لا تضبيب فيها ولا احتباس.
وعلى وفق التوصيف أعلاه تأتي النصوص النقدية أما بمعطيات تندرج تحت عباءة الأبوية لتكون الكتابة استعلاءً وأما بمعطيات خارجة عن تلك العباءة لتغدو الكتابة تنازلاً عن معطيات كانت قد ارتضتها الذكورية كمؤسسة عتيقة ومنظومة عتيدة لتستبدلها بمعطيات أخرى لا ترتضيها لأنها لم تؤسس لها.
وهذا الافتراض الأخير هو الذي يسمح بوجود نقاد نسويين بغيتهم الممارسة المبنية على نظريات الأدب النسوي محاولين كشف انساق غابت واختفت في ظل استبداد الحاضنة الفحولية الموغلة في القدم، وناشدين الانتصار للمرأة لا مجاملة أو تحببا بل مناصرة للمنطق، ومجادلة بالدلائل والحجج التي قد تكون كفيلة باستكناه أصول منهجية قد تتيح عقد المقابلات وتحديد الثنائيات ومحو الملابسات لتنكشف الحقيقة ويتجلى للعيان ما هو مخبأ عن المرأة ككينونة إنسانية طالها التهميش وثيمة إبداعية لا يمكن لها أن تحتل المركز.
ولعل من أولى تجليات هذا التنازل عن الذكورية هو التحديد الاصطلاحي لفحوى النسوية والأنثوية والأنوثة والجندر وأدب المرأة والحدود الشاسعة الفاصلة بين هذه التسميات التي إذا ما خلط بينها الدارس أو الناقد انتفت غائيتها وتبددت حتميات الخوض فيها.
ومن التجليات التي ينبغي أن يقرَّ بها الناقد النسوي المتشبع بالنظريات النسوية والمتصدي لقراءة أدب يوصف بأنه نسوي، الاحتفاء المنقطع النظير بالمضمر والمغيب وعدم التسليم بالمعلن والثابت والمكشوف..
وليس لذلك سبيل إلا بالقلب والدحض والنقض والانتفاء الذي قد يطال الشخصية الذكورية نفسها ويسفه أحلامها وآمالها في الهيمنة والاستعلاء وقد يشكك في فاعليتها والمديات الزمنية القادمة التي ستستطيع بها أن تثبت قدرتها على رفع لواء الاستبداد وقد يصدمها أن مدياتها ليست من الارتكاز الذي يجعلها متفائلة أو مزهوة.
ولعل ما تقدم من تجليات ينطبق على نقاد غربيين تمتعوا بروح الإيثار فانقلبوا على مؤسستهم العتيدة مبتغين إعلاء شأن الآخر المؤنث فقوضوا وفككوا ودحضوا وفي مقدمة هؤلاء النقاد التفكيكيون بدءاً بجاك دريدا وبول دي مان ووصولاً إلى ميشيل فوكو..
أما عربياً فان عبد الله الغذامي في مشروعه الثقافي كان قد انخرط في هذا الباب بشموخ وثقة وراهن على فاعلية المرأة في عالم الكتابة والإبداع وهو الليبرالي غير الأصولي الضليع والمترجم المتخصص الذي تماس عن قرب مع النقد الثقافي الغربي وعاصر اتجاهاته ونظرياته وعرف كيف يمكن توظيفها.. ليؤثِّر في نفر آخرين من النقاد والكتّاب العرب الذين أخذ عددهم يتزايد يوماً بعد يوم..
وإذا كان الفضل في كل هذا التنوير والتثوير والانشقاق عائد إلى الغرب وحركاته التي قادتها نسوة أحسسن بأن حقوقهن قد سلبت منهن وأنهن بحاجة إلى أن يثبتن حضورهن ويؤكدن دورهن اللاعادي في الحياة..؛ فإن المرأة العربية في ظل المنظومة الثقافية الذكورية لم يكن لها مجال متاح مماثل لإبداء أرائها أو إعلاء صوتها ولم يبق أمامها إلا الكتابة كأداة أولى تستعملها سلاحاً فعالاً في قول كلمتها وإعلاء شأنها.
ومع هذا فان المؤسسة الذكورية بمفاصلها كلها وبتاريخها الموغل وبهيمنتها المستبدة قد كممت هذا الدور أيضا وحاصرته في زاوية ضيقة مراقبة له في إطار من محظورات لا يجوز تخطيها أو التمادي في التجاوز عليها.. ليكون المآل موجعا والنصيب المتحقق قاسيا ولا سيما ذلك الألم الذي عانته المرأة المطالبة بحرية الفكر التي كان حجم تضحياتها في سجون الدكتاتوريات والأنظمة المستبدة كبيراً وفادحاً ومع ذلك ظلت مدافعة عن كلمتها وماضية في طريقها باتجاه الإصلاح والتحرر.
ومن المعلوم أدبياً أن ثيمة المرأة ظلت حاضرة على مدى الدهر بدءاً من أدبيات الميثولوجيا والمرويات الشفاهية والأدب الشعبي ووصولاً إلى النزعات النهضوية والتحديثية التي شهدتها كتابة المرأة للقصة والرواية وكذلك القصيدة في الوطن العربي والذي مثلته أصوات جيل من الكاتبات والشواعر اللائي أسهمن في عمليات التنوير الأدبي شعراً ورواية ومسرحاً من هؤلاء الرائدات مي زيادة وعائشة عبد الرحمن ونازك الملائكة وسهير القلماوي ونوال السعداوي وهدى الشعراوي وغيرهن كثير.. وقد أسهمت عوامل كثيرة في بزوغ وعي نسوي تنويري أخذ يمتد في أغلب البلدان العربية، وقد رافق هذا البزوغ وعي ذكوري أيضا بقضية المرأة لا موضوعها.
وعلى الرغم مما تقدم فان من غير المستغرب أن يأتي نقاد يشطبوا هذه الحقائق في سياقها الاجتماعي والأدبي وفي مدلولها العملي والنظري وفي الآن نفسه يدعون النسوية ويعلنون مناصرتها لها بينما هم في الحقيقة يؤكدون مركزيتهم غير متنازلين عن هيمنتهم ممارسين ذات الفعل تهميشاً وإقصاءً.