د.قاسم حسين صالح
في 2008 كنت مدعواً لحضور المؤتمر العربي الحادي عشر للطب النفسي الذي انعقد بدمشق، وكنت أخطط لألتقي بمظفر النواب،فاتصلت بالفنانة هديل كامل التي تربطني بها صداقة منذ أن اختارتني أن أدرّسها مادة ( تحليل الشخصية )
حين كانت طالبة ماجستير باكاديمية الفنون الجميلة،ورتبت لي التواصل مع الفنان كوكب حمزة الذي كان يومها في دمشق أيضاً فاسعفني برقم جوال مظفر، فردّ علي صوت شاب أن مظفر ما يزال نائماً"، وكان ذلك الساعة الحادية عشرة صباحاً".
عرّفته بنفسي ورجوته أن يتصل بي، وفي الساعة الواحدة ظهراً" رن هاتفي وكان صوت مظفر..فكانت فرحتي،واتفقنا على أن يكون موعدنا الساعة السادسة من عصر يوم غد في مقهى (هافانا ) على اسم عاصمة كوبا،علمت أنها ملتقى المثقفين من الأدباء والفنانين في دمشق التي تشبه مقهى ( البرازيلية ) في بغداد أيام زمن الثقافة. كان عصر ذلك اليوم ( ثاني أيام المؤتمر ) تعرض فيه بحوث ونشاطات علمية. ولكن ما الذي يفعله قادم من العراق حصل وقتها على " فيزا " دخول سوريا وقلبه يمتلىء حباً" لمظفر غير أن يتخلى عن كل التزاماته أمام فرحة اللقاء به!
ولأن هذه الفرصة الثمينة تحتاج الى توثيق بالصورة والصوت فإن الأمر يتطلب أن أحصل على " موبايل " حديث غير موديل "اياد علاوي " كما يسميه العراقيون الذي يقوم بوظيفتين:المكالمات والرسائل فقط.
كان الوقت ضيقاً" أمامي،فاليوم جمعة،وشركات بيع الهاتف النقّال( مقفلة) بدمشق، فرجوت من سائق السيارة المخصصة الذي نقلني من فندق شيراتون الى كلية الطب أن يدلني على مكان اشتري منه "ولا يغشني". وكان السائق " ابو باسم " سوري أصيل،أخذني بسيارته ظهراً" الى مكان بعيد عن مركز المدينة. مررنا بقاسيون التي تطل منها "فيروز " لترى بلدها الجميل فعلاً" وسرنا في شارع " رومانسي " تحف به الأشجار..لك أن تسميه شارع العشاق أو شارع الشعراء. ووصلنا الحي الذي يسكن فيه، والمحل الذي يبيع الهاتف النقّال،وكان صديقه. واشتريت الجهاز بحوالي ثلث ما بجيبي من دولارات ( 250 دولاراً!). والمفارقة انني كنت فرحاً" بحصولي على الجهاز برغم أنني سأقصّر في شراء قائمة من الهدايا كلفتني بها " وزارة الداخلية "والعاملون لديها من الجنسين!.
لقاء ..بعد أربعين عاماً" !
كان موعدنا الساعة السادسة عصراً" في مقهى " هافانا "..وها أنا فيها قبل عشر دقائق.جلست بالمكان الذي اعتاد مظفر أن يجلس فيه وعيناي تطلان على الشارع ترصدان الوجوه القادمة.
كنت مثل الذي لديه موعد مع حبيبة،فارقها وهي شابة وينتظرها الآن وهو في الخمسين. كان بي شوق عارم لأن أرى مظفر،وخوف يرعبني أن أراه بالحال الذي وصفوه لي، فأنا لم التقِ به سوى مرة واحدة استمرت عشرة أيام،في القلعة الخامسة بسجن بغداد المركزي، حين كان شاباً"،وها أنا انتظره الآن وهو في السبعين!
كان الشارع ضاجاً" بالناس والسيارات.ومن بعيد لمحت مظفراً"،عرفته من شعر رأسه الأبيض المنسدل على أذنيه.كان يتهادى في مشيته ومعه شاب.ودق قلبي،فلحظتها كنت مثل الذي فارق أباه أو أخاه أو صديقه الحميم وكان يائساً" من لقياه وها هو آت لا تفصله عنه سوى أمتار! .
ودخل مظفر،واعترتني هزّة. فأنا أحمل للرجل حباً" خاصاً"،وأرى فيه تاريخ العراق الحديث، وتاريخ الشيوعيين والمناضلين الوطنيين، وشاعراً" يلهج باشعاره العراقيون والعرب أيضاً". فمن ينسى منهم قوله لحكّام العرب:
" أولاد القحبة ،لست خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم..
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم ".
وما يوجع إنه برغم كل ما قاساه من أجل الوطن والناس فإنه يعيش غريباً" عنهما،وقد يموت غريباً" أيضاً" كما الجواهري،وكأن الموت والغربة صارا قدرا" للعراقيين أمثالهما، مع أن العراق قد تحرر كما يقولون.
أخذته بحضني وقبلّته على الخدين والجبين،ولحظتها أصبت بدهشة وسؤال حيرني: ترى هل يقصر طول الإنسان بتقدم الزمن؟! . فقد استحضرت ذاكرتي المشهد الأول للقائي بمظفر عام "64". فحين استقبلته بباب القلعة الخامسة بسجن بغداد المركزي، وقدّم لي نفسه قائلاً" : مظفر النواب ! مدّدت يديّ الى رقبته واحنى رأسه لي لاقبلّه..وها أنا الآن أحني رأسي لأقبلّه مع إنني لم أزدد من الطول إلا قليلاً"!.
كنت أحضرت لمظفر هديتين : كتابي " المجتمع العراقي " الذي فيه موضوع عنه بأسمه ،وكيلو جرزات من أربيل.وبدأت الكلام بأن فتحت غلاف الكتاب وقرأت له الإهداء ، وكان كالاتي :
" الى الذي التقيته قبل أربعة وأربعين عاماً" واسميت ابني على أسمه..الشاعر والفنان والمناضل والإنسان الذي إذا ذكر الشعر والعراق ذكر أسمه..مظفر النواب ".
واهتز صوتي حين قرأت الإهداء..والتمعت في عيني مظفر ومضة نديّة.
*
بدأت الحوار بأن سألته:
- كيف أنت الآن يا مظفر ؟
فأجابني : مو حزن..لكن حزين
- يعني : مثل بلبل كعد متأخر لكه البستان كله بلايه تين ؟
+ وأكثر !
- بس لا يمكن أن يصير مظفر: مثل صندوق العرس ينباع خردة عشك من تمضي السنين.
+ هاي تبقى يم الناس.
- وتبقى بقلوب ناسك اشما تمضي السنين .
+ وأنا حزين على الناس أولا" ، وعلى المبدعين ، وعلى الوضع العالمي. وحزني حزن شجاع جسور..يحاول حرق خبايا تبدو غريبة ولكن أقرب الى الحقيقة.
وكان ثالث الأشياء التي آلمتني في مظفر ، بعد صدمة إدراكي أن طول جسمه قد قصر ، وقلة وزنه الذي قد لايصل الستين كيلو،هو أنه يعيش حالة " انكسار نفسي "..ولها أسبابها..فالرجل يعيش وحيداً" في شقته ، فلا زوجة تؤنسه في وحدته وشيخوخته،ولا يأتيه الأهل الموزعون بين بغداد وهولندا إلا في أحايين متباعدة، ولم يبقَ منهم سوى أخوان وثلاث أخوات.