عدوية الهلالي
شاهدته يبتعد عنها وهو معصوب العينين ومقيد اليدين خلف ظهره....شعرت بقلبها يتهشم كقطعة زجاج ...كانوا يقتادونه الى المجهول وكان عليها ألا تصرخ أو تعترض بشدة لكنها صرخت مع ذلك ولم تشعر بما خلفته ركلة رجل الأمن من آلام ...وابتعد عنها ،
وكان آخر ماشاهدته من بين فيض دموعها خاتم زواجه الذي كان يتلألأ تحت الشمس وهو يحيط ببنصره ..كانت تقول له : أريدك أن تتزوج لأرى أطفالك واختارت له ابنة جارتها ولم يعترض فقد كان يود ارضاءها بكل الطرق ولم تمضِ على زواجه منها إلا شهور حين اندلعت تلك الانتفاضة وبدأ بعد إحباطها مسلسل تصفية أكبر عدد ممكن من شباب محافظته ..
بعد سنوات ، عثر الأهالي على عظام ابنائهم في مقابر جماعية وهرعت الأم لتفتّش عن عظام ابنها ووجدتها ..تعرفت الأم على ولدها من ذلك الخاتم الذي تلألأ تحت الشمس حين أُزيل التراب عن بقايا هيكله العظمي ..اندهش الواقفون من جرأة الأم التي احتضنت العظام كما تحتضن جسداً ينبض بالحياة وحملتها معها في منديل لتضعها في حجرها وهي في الطريق الى المنزل ...نظر سائق سيارة الأجرة في مرآة سيارته وهو يستمع الى دندنة تصدر عن المرأة الراكبة معه فشاهدها تحتضن صرّة من القماش وتهدهدها كما الرضيع ...فكر السائق ...كم أنت كريه أيها التراب فقد أكثرت من أخذ الاحبة ...أحبة يذوبون فيهم عشقاً وهاهم يذوبون فيك والفارق الوحيد إنهم يذوبون فينا برغبتنا ويذوبون فيك من دون رغبتهم ..
مرّت سنوات ، ومازالت المرأة العراقية تحصد ثمار السياسة الفجة فتودع أحبتها الى جبهات القتال أو المعتقلات أو ساحات التظاهر وتستقبل توابيتهم أو رفاتهم بصبر يفوق المعقول ثم تستعد لاستقبال مرحلة جديدة تنفض عنها أحزانها فيها لتحل محل الرجال الغائبين وتتحمل مسؤولياتهم ..ففي بلدنا ، اعتادت المرأة أن تصبح خارقة لتقاوم صعوبة الظروف التي أحاطت بها عقوداً طوال ومازالت تمتحن صبرها وقدرتها على الاستمرار والعطاء...وحين تحمل المراة مسؤوليات مضافة الى مسؤولياتها النسوية المعروفة فهي تضطر الى التخلي عن انوثتها وحاجاتها العاطفية والنفسية أو التخلي عن أحلامها وطموحاتها لتدفع عجلة المعيشة وحدها أو تربي أولادها وتحقق أحلامها من خلالهم ، وحين تصحو فجأة بعد أن تكتمل رسالتها تجد نفسها أحياناً وحيدة ، مهمشة وعاجزة صحياً ، وقد تحاصرها الكآبة والأمراض النفسية حين تشعربأنها أضاعت أجمل سنوات عمرها في ارتداء جلباب الرجل ونسيان كونها امرأة ..
الحرمان إذن هو أكثر ماتعانيه المرأة العراقية في ظل ظروف عامة خارجة عن إرادتها لكنها تسحبها الى دوامتها سحباً ولايسهل عليها الخروج منها دون خسائر ..
فالمرأة العراقية واجهت معاناة تفردت بها عن غيرها حين عرفت الترمّل والنزوح وفقدان الأبناء واليُتم وضياع الأحلام ..إنها امرأة خارقة إذن فهي ورغم كل معاناتها الخاصة والعامة تواصل النضال وهي تستقبل عيد المرأة لتضع قدمها بين أقدام أخواتها العربيات على عتبة المستقبل وتصبح واحدة منهن فقد علمتها الظروف الصعبة أن تتفوق على نفسها وأن تطلق طاقاتها الكامنة لتقول للعالم كله :أنا موجودة ..