TOP

جريدة المدى > عام > ملحمة كلكامش.. ومسرحيتي الليالي السومرية

ملحمة كلكامش.. ومسرحيتي الليالي السومرية

نشر في: 10 مارس, 2020: 07:10 م

لطفية الدليمي

شهادة شخصية عن استلهام الملحمة

تقديم : الغاية والمعنى و الوجود 

هناك مجموعة من الأسئلة المرتبطة بالوجود الإنساني تندرج تحت توصيف الاسئلة الكبرى -

تلك الأسئلة التي تتعالى على الإختلافات البيولوجية والجغرافية بين المجموعات البشرية وتكتفي بمساءلة الوجود البشري حسب . تتمحور تلك الأسئلة الكبرى حول قضايا جوهرية عدة هي موضوع كتابات فلسفية وعلمية ذائعة ، ولعلّ من الصعب أن تخلو كتابات أي فيلسوف أو مهتمّ بالوجود البشري من طرح تلك ( الأسئلة الكبرى )، وفي ظني ستبقى موضوعة ( المعنى والغائية ) في الحياة البشرية الموضوعة مفتوحة النهايات وسيُعاد تشكيلها تبعاً للفتوحات العلمية والتقنية المستجدة في كل عصر . 

ترتبط موضوعة غائية الحياة ( والوجود الإنساني بعامة ) على نحو شرطي بتوفر معنى للوجود وهي موضوعة فلسفية - سايكولوجية - لاهوتية مركّبة في المقام الأول وليست أسبقية أو ضرورة علمية وإن جرى توظيف قوانين العلم ووسائله العلم بطريقة قسرية مقحمة ( أغلب الأحيان ) في حمى الجدالات الفلسفية منذ عصر الفلسفة القروسطية ومروراً بعصر التنوير الأوربي حتى يومنا هذا . قد لايُبدي بعض المنافحين عن وجود معنى للحياة مقترن شرطياً بغائية فيها ولعاً بالتفاصيل الفلسفية ؛ لذا نراهم يحاججون بتلك الحجة اللاهوتية الأزلية : كيف يمكن تصوّر العيش في عالم غير ذي غاية ولا معنى ؟ وهل هناك إمكانية لوجود أخلاقيات في مثل عالم كهذا ؟ هم يجادلون على هذا النحو لأنهم يريدون مكافأة لكلّ فعل خيّر يفعلونه ولايطيقون تصوّر عالم تنعدم فيه المكافأة المرجوة من وجهة نظرهم . 

يكمن معنى الحياة وغائيتها في عقولنا وأرواحنا فحسب : قل كلمتك وافعل الخير ، وابذل أقصى جهودك في فعل ماتحبّ وتهيم به شغفاً، ولاتنتظر مكافأة فورية أو مؤجّلة لكل فعل طيب تفعله، ولاتدنّس ضميرك الحي بصغائر الأفعال - هذا هو مايخلع معنى على الحياة .

ملحمة كلكامش

تمثّل ( ملحمة كلكامش ) الرافدينية ، أفضل تمثيل الجوهر الكامن في العبارة الأخيرة ، فضلاً عن تأكيدها قيمة اقتناص اللحظة واغتراف رحيق الحياة المشتهاة على نحوٍ يجعلنا نمتلئ بطاقة أبيقورية يتوازن عندها التفكر في معنى الحياة وغائيتها مع إجتناء اللذة اليومية في العيش، وعلينا - إذ نفعل هذا - أن نضع في حسباننا أن اللذة ألوان شتى تتباين بحسب التكوين العقلي والسايكولوجي ونزوع الفرد ورؤاه التي تشكّل مساره في الحياة . 

لطالما نظرت إلى ملحمة كلكامش على أنها نبع لاينضب معينه من الرؤى الفكرية والفلسفية، وكنت أحرص سنويا على قراءة إحدى ترجماتها الموثوقة عن اللغة الأكدية مباشرة، وفي كل مرة اكتشف المزيد من الجواهر الفكرية المدهشة المكنونة في ألواحها وكنت ومازلت أتابع الأعمال المسرحية والأوبرات وأفلام الرسوم المتحركة اليابانية والأوروبية المستلهمة من ملحمة كلكامش، ولطالما دعوت في مقالاتي الصحفية طوال عقود إلى أهمية تدريس صيغة مبسطة أو خلاصة مكثفة عن أفكارها الأساسية في المدارس الابتدائية والثانوية أسوة بما تفعله المدارس اليونانية منذ سنوات بعيدة لتعزيز الوعي بأهمية الموروث الأدبي والفكري للحضارات القديمة. فقد أوكلت حكومة اليونان للكاتب الكبير نيكوس كازانتزاكي مهمة تأليف كتب منهجية عن ملاحم الإغريق بأسلوب مبسط ولغة معاصرة لتلاميذ المراحل الابتدائية والثانوية.

مسرحيتي ( الليالي السومرية)

أسوة بما فعله الشرق والغرب بالكتابة المسرحية والإنتاج الاوبرالي لملحمتنا الخالدة، تصديت في منتصف تسعينيات القرن الماضي لكتابة مسرحية( الليالي السومرية) استلهاما من أساسيات ( ملحمة كلكامش ) برؤية معاصرة تركز على تقابل المنحى الأبيقوري فيها مع المنحى المعرفي عبر رحلة البحث المضنية عن معنى الوجود والحياة والموت. 

ولم أتوقف عند مسرحية ( الليالي السومرية) بل كتبت ثلاث مسرحيات أخرى ( هي : شبح كلكامش - قمر أور – شيوخ أوروك ) في مسعى لإعادة قراءة الموروث الرافديني وتوظيفه لإثراء الحياة المعاصرة ومنحها زخماً يمكّنها من المضي ببعض رؤية تفاؤلية وسط كارثية الحالة العراقية . 

تقصر الأدبيات الرافدينية مهمة الحضور النسوي على موضوعات الغواية والجنس وسيادة مبدأ اللذة؛ وتغفل غالباً دور المرأة في صنع مفردات الثقافة ونصوص الحكمة والحب وأسئلة البحث عن الغايات الكبرى في الحياة..

وكان لابد لي أن اقترح رؤية مسرحية معاصرة تستند الى نص موروث وفي الوقت ذاته تتناغم مع مفهوماتنا الحداثية في المجتمعات المعاصرة وتتبنى رؤية عقلانية تتخطى السحرية الأسطورية و تيسر إسقاط قراءتها على حاضرنا.

المرأة : حضور مكثف في النص المعاصر

إستخلصت مجموعة الثيمات التي عزمت على مقاربتها في نصي المعاصر؛ وانتقيت الشخصيات النسوية الأصيلة في الملحمة وعالجتها بما يتناغم مع جدوى إعادة الكتابة، وأضفتُ شخصيات نسوية أخرى إستعرت أدوارهن من الموروث السومري لأبرز دور الأنثى ومشاركتها في تشكيل الملامح الحضارية والمواقف الوجودية المتعارضة أو المتوافقة مع نص الملحمة.

إلتزمت في نصي المعاصر الحدود الخارجية التقليدية للشخصيات لكني ملأت فراغات الروح والعقل بمواقف وتجاذبات تستدعيها حركة الشخصيات الجديدة في مواجهة الشخصيات الأصيلة مع الاستنارة بالفكر الرافديني ورؤيته للوجود ومعضلة الوجود والموت والحياة والخلود والسلطة .

تقدم الملحمة قوة كلكامش ودمويته باعتباره عاهلاً عظيم الشأن ، رغم كونه المتجبر الدموي الذي يقيم دعائم مملكة أوروك على سلب الناس أبناءهم وزوجاتهم وبناتهم، وهوالجانب الدرامي الصاخب الذي استثمرته في نصي وجعلت الجموع الأوروكية تضج بالشكوى وتتضرع للآلهة أن تخلق له نداً يقارعه وينقذ أوروك من تجبره .

تعاملتُ مع الواقعة الملحمية الأصلية الأساسية ( خلق البطل المضاد أنكيدو ) باعتبارها قاعدة ترتكز عليها الصراعات اللاحقة والتفجرات الفكرية والرؤيوية التي تقود إلى تحولات مواقف الشخصيات ومصائرها، وركزتُ على شخصية ( أورورا ) الربة الخالقة التي ستتمرد على إرادة آلهة سومر ولاتكتفي بخلق أنكيدو ليقارع كلكامش المتجبر؛ بل تعمد إلى خلق المزيد من البشر وبخاصة النساء لتتعادل كفتا ميزان الوجود في الصراع المحتدم ، ومن هؤلاء نيسابا وتمثل المقابل الضدّي لشخصية الغانية (شمخت) التي يرسلها كلكامش لتغوي إنكيدو وتوهن قواه الوحشية، وتلتقي (شمخت) مع (نيسابا) آلهة القلم والمعرفة في حوار تنافسي بين دور الغواية والجنس ودور العقل والمعرفة . ينمو التصاعد الدرامي لتعزيز سطوة شخصية ( سيدوري ) سيدة حانة الآلهة على البحر الأسفل التي تبشر بفلسفتها الأبيقورية المعنية بمبدأ اقتناص المتع الممكنة، وتحاول ثني كلكامش عن إتمام رحلته في مياه بحر الموت مشيرة إلى بطلان فكرة الخلود إزاء حقيقة الحياة المحدودة .

ظهرت في النص الجديد فاعلية أدوار النساء في تشكيل عصب الصراع ومفاهيم الوجود والحياة ؛ فتتصدى ( نيسابا ) سيدة المعرفة لمواجهة مجلس شيوخ أوروك وكهنتها ممن تنادوا للإستيلاء على السلطة أثناء غياب كلكامش في رحلة بحثه عن الخلود وتنجح في إحباط تواطؤ الكهنة مع كهنة دويلات المدن السومرية للإنقضاض على أوروك . وتتصاعد الوقائع بعد الصراع المدوي بين كلكامش و انكيدو وتصالحهما ليتخذه خدناً ورفيقاً ويبدآن رحلتهما المحفوفة بالمخاطر والمجازفات لقتل الوحش خمبابا في غابة الأرز ، خمبابا الخوف- الوحش الذي يسكن أعماقنا ويوهن إرادتنا. تنهار قوة كلكامش وتتضاعف مخاوفه بعد موت الصديق انكيدو ويفجع بالفقدان ويتجسد عجزه إزاء الموت وتبدأ تحولاته من طاغية باطش الى كائن هشّ مرتعب من الفناء ، فيمضي مدفوعا باضطرابه وانهياراته الشخصية في الرحلة الأخيرة بحثاً عن عشبة الخلود ليحصل التحول الأخير حين يتخلى - في مسرحيتي - عن رحلته بعد حديثه مع سيدوري سيدة الحانة التي تباغته بعقيدتها الأبيقورية وتخبره أن الخلود الجسدي أمر محال ؛ فذلك أمر خَصّت به الآلهة نفسها وحرمته على البشر :

سيدوري:

عُدْ من حيث أتيت ،هذا مضيعة للوقت

عُدْ .. عُدْ ،لاشيء سوى الموت ،في تلك المياه لاشيء سوى الأفعى والتنين ،هناك لن تجد السر بل اضطراب القلب والعاصفة التي لاتقهر..

كلكامش : هذا أعرفه .

- علام إذن تمضي في رحلة الموت ؟

- لعلي أجد الإجابة 

- تخطئ ياملك أوروك ، الجواب هنا على أرض البشر ، أتراك عرفت الفرح؟

- جربت كل شيء وعرفت كل شيء 

- وهْمٌ آخر من أوهام القلب أنت لم تعرف أي شيء ، دع الرحيل وافرح ..

عُدْ إلى أوروك ، واجعل الشبان يتلألأون مثل شمس النهار بأفراح قلوبهم، إصنع الفرح لأهل مدينتك، ليكن الفرح من نصيب البشر، وهو مانصنعه بأيدينا .

- كيف ؟ 

- هذه مهنتي ، أصنعُ الفرح من الموت أيضاً .

- حسبك ،إبتعدي عني ، لابد أن أواصل رحلتي..

- أترى هذه العظام ؟ سأصنع فرحاً من قرون الأيائل وعظام الثيران ، سأصنع لك قيثارة أوتارها من ضفائري وصوتها من نشيد قلبي وسيتوهج الفرح حولنا..

تصل نيسابا ربة القلم والمعرفة ويبدأ صراع بين المرأتين ، فتحاول كل منهما تغليب فلسفتها وكسب كلكامش الى جانبها .

تهمس سيدوري:

- بالفرح ستنسى حزنك ، سأسقيك من رحيق الآلهة 

- وماذا أكون عندها ؟ ثملاً يذهل عن زمنه ؟

- بل ستكون ما أنت عليه ..

- لايكفيني هذا ، المتعة والفرح ليسا بغيتي ، أريد أن أعرف ،

- انظر إليّ ،كل صباح أنسى مامرّ وأنتظر الآتي ،من باب الحانة أرقب هذي الدنيا وأرى كل مصير الإنسان، أسمع صرخات وأغاني .. هو ذا قدرُ الناس .... تنشدُ زمناً آخر للإنسان ؟ تطمح في عمر ثان ؟ عُدْ من حيث أتيت، قَدَرُ الإنسان الموتُ ، فافرحْ وتناسَ مامّر، لحظةُ عيشٍ خيرٌ من وَهْم، عِشْ يومك فالدنيا موجةُ بحرٍ ، زائلة بزوال النوء..

( تدخل نيسابا ) 

- إحذر هذي المرأة ، فهي تبيعك وهماً وفرحاً زائلاً يسلبك قوة الفكر، ستملأ قلبك بالدخان وتحجب عنك الرؤيا..

كلكامش : من أسمعُ ؟

نيسابا : منْ علّمتْكَ كيف تعرف وتكون 

سيدوري : هي تسحبك إلى بئر النسيان

نيسابا : مَنَحْتُكَ المعرفة لتخلد بمآثر عقلك ويديك..

سيدوري : وأنا وهبتك الفرح لتنسى موتك القادم 

لابدّ أن أذكر في هذا المقام الأستاذ الراحل المسرحي الكبير( سامي عبد الحميد ) الذي خبرت أخلاقياته الرفيعة وثقافته ودماثته ومرحه لأكثر من خمسين عاماً عبر صداقة عائلية ممتدة وعلاقة أعمال فنية مشتركة كان آخرها تصدّيه لإخراج مسرحيتي ( الليالي السومرية ) سنة 1994 ؛ حيث إجتهد في تقديم رؤية حداثية للنص وأضفى روحاً معاصرة عليه أسقطت معضلات الحرب والإستبداد وشهوة السلطة على النص المستوحى من ملحمة كلكامش، قدم العرض الأول في مهرجان بابل على مسرح الرشيد وحصل على جائزة أفضل نص يستلهم التراث الرافديني ، وللمفارقة جرى منع عرض المسرحية بعد ليلتين في عرضها الثاني عقب شهور من عرضها الأول ضمن عروض مهرجان المسرح العراقي على قاعة الشعب .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram