ستار كاووش
توقفتُ قليلاً وأنا أتابع أوراق الأشجار المتساقطة وهي تغادر أماكنها مترنحة في الفضاء مثل شذرات من الذهب، وتغطي عشب الحديقة، لأجمعها مجدداً وأضعها في عربة اليد الصغيرة لرميها في المكان المخصص أمام البيت،
وبينما أنا منشغل بألوان وأشكال هذه الأوراق التي غالباً ما بحثتُ عن طريقة لتوظيفها في لوحاتي، لاحظت سيارة رمادية تقترب من بعيد ببطء وكأن من يقودها يبحث عن عنوان أو بيت معين، وما أن عدتُ لعملي حتى إلتفتُ نحوها من جديد لأني خمنتُ من يكون القادم، لتتوقف السيارة بجانبي ويرتفع صوت هينك الذي امتزج بضحكته التي أعرفها عن ظهر قلب (هل هيئت اللوحات؟). كان هينك يملك غاليري جميل في مدينة إنكهاوزن وحضر الى المرسم لنأخذ معاً لوحات معرضي الشخصي، وقبل أن أعد القهوة ناولني رزمة من بروشور المعرض والذي طبعت عليه لوحتي (فتاة بعيدة المنال)، إحتسينا قهوتنا وقد أعجبه الهدوء الذي عمَّ المرسم والحديقة الواسعة وكل مكان في القرية التي ترقد وسط مقاطعة درينته الريفية، لنضع اللوحات في السيارة وننطلق نحو إنكهاوزن بعد أن حملت معي تفاحتين وبعض الشطائر التي تناولناها معاً أثناء الطريق.
أقيم المعرض الذي حمل عنوان (الرسم في أرض لا أحد) بعد أيام، وكان الافتتاح رائعاً وبحضور الكثير من المتابعين، وقد سألتني الصحفية ليندا بونَما التي كتبت موضوعاً لجريدة (نورد هولاند داخبلاد) عن سبب تسمية المعرض بهذا الأسم، فقلت له حينها بأني لا أزال بدون إقامة رسمية في هولندا وليس لديَّ جواز سفر هولندي، كذلك فأن جوازي العراقي انتهت صلاحيته ولم يعد له وجود منذ سنوات طويلة. فمن أنا بشكل رسمي؟ وماذا يربطني بالأرض التي أرسم فيها وأُقيم عليها معرضي الآن، أنا الذي لا أستطيع ان أثبت بالأوراق عراقيتي ولا هولنديتي؟ هذا ما دعاني لتسمية المعرض بهذا الأسم).
كان صاحب الغاليري هينك رائعاً وودوداً رغم شكله الجاد الذي يذكرني بأنشتاين، وما قربني منه أكثر هو إستماعه لآرائي وما أقوله بإهتمام وتقدير كبيرين، حتى الدعابات التي أطلقها هنا وهناك يستمع اليها بمحبة صديق قديم، وفوق هذا كله كان متحمساً ومحباً للوحاتي. بعد إفتتاح المعرض الذي كان صاخباً بعض الشيء، أكملنا الاحتفال عند سايمون وزوجته، وهو احد معارف هينك، وإصطحبنا معنا بعض الأشخاص الذين كانوا في الافتتاح، وهناك أشار لنا سايمون بالتوجه الى طاولة كبيرة من خشب البلوط تربض وسط باحة البيت، وبدأ بوضع النبيذ والجبن والسمك المدخن وبعض الاكلات البحرية. مددتُ يدي نحو كأس نبيذ أحمر، وقبل أن أهم بتذوقه، إنتبهتُ لسيدة شقراء كانت تتابع حركتي وتُثَبِّتُ عينيها صوبي بتمعن وإستغراب، فإقتربتُ منها مستوضحاً سبب هذه النظرة المتسائلة، وحين صرتُ بجانبها بادرتني بسؤالها غير المتوقع (هل تشربون النبيذ في العراق؟) وبينما كنتُ أبحث عن إجابة مناسبة، لاحظتُ نظرات هينك الذي كان يراقبني من فوق نظارته بخبث وكأنه ينتظر الجواب، وهنا بادَرَتْ المرأة بتوضيح سؤالها، لتزيد الطين بلَّة (أقصد هل تشربون الكحول في العراق؟) فأخذتُ رشفة صغيرة، قبل أن أقول لها بسخرية يعرفها هينك (نحن عرب، ولدينا بترول كثير جداً ولا نعرف ماذا نفعل به، لهذا نحن في العراق نشرب البترول بدلاً من الكحول) وقبل أن يستوعب الحاضرون ماقلته، أكملتُ قائلاً (وبالنسبة للمزات المصاحبة للشرب، فالإبل متوفرة بكثرة، لذا نحن نأكل لحم الجِمال مع كؤوس البترول وسط صحراء الله الواسعة) ليغط الحاضرين بالقهقهة ويهرول هنك نحوي ويعانقني وهو لا يستطيع السيطرة على نفسه من شدة الضحك. وبعد أن هدأت عاصفة البترول لاحظت كيف أن المرأة قد توردت وجنتاها من شدة الخجل، لأقترب منها واعتذر من إندفاعي ودعابتي التي تماديتُ بها بعض الشيء، وشرحت لها كيف تكون الحياة الطبيعية في العراق بعيداً عن الحروب، لأقول لها في النهاية وأنا أشير من خلال النافذة الى الخارج (أدعوكِ لزيارة متحف البيرة في مدينة ألكمار القريبة، فهناك في مدخل المتحف علقت يافطة تعريفية كبيرة للزائرين، كُتِبَ عليها باللغة الهولندية بأن أول من إخترع الخمرة قبل خمسة آلاف وخمسمائة سنة هم سكان مابين النهرين، أي العراقيون الذين يشبهونني هناك).