علي الياسري
للوهلة الاولى تبدو مشاهد افلامه اقرب لسكتشات بصرية تضج بالمعنى والفكاهة وتعقيدات رمزية لا تُسَّهِل ابراز ترابط موضوعي لسلسلة مشاهدها،
لكنها بالضرورة مكتسبات تعبيرية مرجعيتها ذاكرة ترفض النسيان او المحو القسري لوجه بلد لازالت نكبته تجدد الاوجاع. صورة سينماه تنعكس مرتين دائما، الاولى اثناء المشاهدة بمظهرها المغلف حوارات غالبها الصمت وكوميديا الموقف وصدى الموسيقى، ثم ثانية بعد العرض حيث الاسترجاعات المتتالية التي تضرب عمق الذاكرة والعقل حتى تستظهر الباطن وتحقق وحدة سردية فاعلة تتكشف معها صورة الهم الفلسطيني.
التفاصيل المختزلة
يستكمل سليمان في اخر افلامه (إن شئت كما في السماء) تهويمات حكايا الزمن الباقي واليد الإلهية، لتتفرع منها انكسارات الضوء على موزائيك اللوحة المشتتة في بقاع قصية لا يدنو منها اسم او خريطة او علم الا وتقافز خيال فلسطين اشكالا سريالية تسخر من زمنها لكنها بذات الوقت تُقَّبِل جذوة الامل. قد يظن البعض مثل ذلك المنتج الفرنسي في الفيلم حين رفض السيناريو، ان سينما إيليا لا تقدم شكلا واضحا يتبسط طرق الوصول لرواية تقلبات حال قضية بلده الى المشاهد. لكن ذلك بالحقيقة هو عكس ما يطرحه كليا، فمقاربات المخرج لا تعتمد خطابيات مباشرة ولا دراما مغمسة بوجع مُسهب واضح. كان اختياره رؤى سينمائية تختزن ضجيج التفاصيل بلمسة تجريد وكوميديا، يتداخل فيها الشخصي والعام كوجهي عملة واحدة.
شجرة الحياة
فسيفساء النص السينمائي عند ابن الناصرة هي امتداد لتلك اللوحة الاكبر في العالم والموجودة بقصر الخليفة الأموي في مدينة أريحا. فشجرة الحياة بتصوري هي اكبر إلهامات إيليا لصياغة نظرته للواقع الفلسطيني من مزيج الخيال وحقائق التاريخ وتفاعلات الحاضر. ترتيباتها اللونية الكثيرة وربطها بين وداعة السلم ووحشية الحرب نسغ أصيل في ثيمات فيلم إن شئت كما في السماء. الوحدة الموضوعية ليست غاية درامية في رؤيته فقط بل هي معنى وجودي يتعلق به مصير الفلسطيني، ينعكس ذلك في شجرة الزيتون، حقول الارض الممتدة، اطلالة البحر، شكل المنازل، ثمرة الليمون، المسارات اللامتناهية، والاكثر بروزا وأهمية لعناصر التكوين البصري في مشاهد فيلمه المرأة. هي مرة فلسطين الضاربة جذورها في بساتين أشجارها تتجول بزيها التراثي حاملة أوعية همها، تنوء تحت ثقلها لكنها لا تقطع مسيرها ولا تستسلم. ثم هي أسيرة مقيدة ومعصوبة العينين لدى المحتل السارق -كناية النظارات ومدلولها في تغطية عيونهم بظلال سوداء-، لكنها رغم العصابة تراه وتستشعر وجوده ابنها الحالم بها دوما. لذلك تراها تحلق معه بجناحيها رفيقة درب وملاك ابدي يحمله للشتات.كان صوت نجاة الصغيرة مثال ذائقة شخصية يعكس كل تلك الامنيات والاحلام التي عادت مرة اخرى لتتجسد امامه في قلب حديقة شرطي العالم كاشفة عن وجودها طائرا أنثويا ترتدي علم غرام ممنوع لكنها عصية على الامساك والاخفاء. ففقدان الوطن استثناء كما يقول ناجي العلي لذلك يمسح إيليا سليمان الخط الفاصل بين الواقع والخيال.
حنظلة قيامة متجددة
لاشك ان صدى الرفض عند الفرد الفلسطيني تجسد ثابتا دهريا بأيقونية شخصية حنظلة التي تأملها المخرج حجر الاساس في سردياته السينمائية، ومن خلالها كسر سكون عمر الطفولة الراصد لتبدلات الحال عند الفنان العلي الى فضاء زمني يتساوق فيه مع مضي السنوات على هموم القضية وأنعكاساتها الشخصية والجمعية. فالهوية والانتماء لم تكن يوما معضلة يختبيء خلفها بقدر ما يستلهم منها قيامة موعودة لأنسان الارض المحتلة، ينزل فيها العائد عن صليبه ليدفع من خلالها الموت بالموت وليهب الحياة لذكرى راحلين غفوا على الامل. قدسية وهيبة هذه اللحظة يمزجها سليمان بنكهة فكاهة تسخر من مرارة الزمن، كذلك هو مشهد الافتتاح الذي يردفه بمشهد ايليا -حنظلة المعاصر- يتأمل في المنزل -الوطن- كأنه قد نهض ليسرد لنا حكاية فيلمه الجديد هذه المرة، وبالتأكيد ليست الاخيرة، وليسقي شجرة الوطن وليعيد تصحيح الزمن.
أزمات الداخل
بالتمعن في بعض اسكتشات مشاهد الفيلم المتصلة بنقد الذات وفق منظور عام يقترب المخرج من حساسية المواقف وأشكالية الطرح بتجريد تغطيه نبرة تهكم مريرة يسعى من خلالها لبيان ان جزءا مهما من انتكاسات الواقع على امتداد زمن التغريبة الفلسطينية مرهون بتمثلات الصراع بين توجهات الرؤى لأبناء الشعب الواحد المسببة لخلافات مزمنة، من الازدواجية في المعايير او قصر النظرة او عنف السلوك وليس انتهاء بالتهور في القرارات.
وطن على قياس العولمة
في فنتازيا عالم يسوده العنف والرأسمالية المتوحشة -مشهد الدبابات تمر امام بنك فرنسا وسط باريس- حيث يتجلى بصريا صورة بربرية لتزاوج المال والسلاح منتجة طوابير فقراء ومشردين –مشهد توزيع الطعام امام الكنيسة-، والعنصرية المتنامية –مشهد المترو-، واضمحلال الحب المطارد والغير مرغوب فيه –مشهد الشاب الذي يخفي باقة ورد احمر تحت سيارة في الشارع لأن هناك رجال أشبه بآليين يطاردونه-. انها النكبة بمنظورها العالمي. يبدو الفلسطيني عند إيليا سليمان أسير واقع يُضَيّقُ عليه الارض كل يوم بسبب سياسات دولية وصراعات عيش مابرحت تقتص من حلمه باستعادة الوطن حتى بدى مجرد سنتيمترات معدودة على خريطة عالم أهمل إنسانيته ببلادة ودون أدنى اعتبار لوجوده وعليه ان يرضى بها –مشهد شرطة البلدية تقيس المكان الذي يجلس فيه خارج المقهى-. لا يفقد المخرج رغم كل ذلك إيمانه ويضع أمله على عاتق الزمن. فحتما ستكون هناك فلسطين ولكن ليس في حياته كما يخبره العراف.
عربي أنا
يختم سليمان فيلمه بنبرة تحدي واضحة لقانون الدولة القومية الذي يكرس يهودية اسرائيل ويلغي وجود اللغة العربية، حين يتراقص شباب من عرب 48 على أنغام أغنية عربي أنا، مركزا على حالة الحب والبهجة المحتفية كأنتفاضة تجمع بين مسار نُطق الحرف العربي المُغنى وفلسطينيته.