د.نادية غازي العزاويتعنى هذه الورقة بجانب آخر من منجز سعد محمد رحيم غير منجزه القصصي والروائي ، أعني تجربته المقالية ، مصدّرة هذا بدعوة جادّة إلى ضرورة جمع مقالاته في كتاب لتسهيل تداولها بين القرّاء ، لا لأنها وثائق تؤرشف للحظات مفصليّة من معاناة الوطن وعذابات الناس فيه فحسب ،
بل لأنها تنطوي على خصائص فنية ترقى إلى مستوى الرصد النقدي فضلاً عن أنها تشكّل خلفيّة جيدة للوقوف على خفايا صنعته القصصية ، وأسرار نصّه السردي ، بفحص مرجعيّاته المعرفية والحياتية ، والكشف عن كيفية تسرّب مؤثّراتها وروافدها عبر خيوط سرده.والصلة بيني وبين مقالاته قديمة ومستمرة ،وليس قليلا أن يحوز قلم الكاتب على ثقة قرّائه، بأن يكون اسم الكاتب وحده سبباً كافياً للإقبال على قراءتها،ومع كل قراءة تتجدّد الثقة بالقلم وصاحبه ،فتدّخر المقالة المقروءة وعدا مضمرا وأكيدا بمقالة قادمة منتظرة من المؤلف ، وبما يحتّم قراءة جديدة من المتلقي ، في حالة أقرب إلى ( العقد) غير المكتوب بينهما ، ولكنه موثّق بضمانة الضمير ويقين الاحساس.ومن أسباب الثقة بمقالة (سعد)دأبه في البحث ،وجديّة المعالجة ، واحترامه لمسؤولية الكلمة ،ووضوح منطلقاته ورؤاه من غير ما تناقض أو تلوّن أو غيرها من حالات الضعف والهشاشة ،والإخراج المحكم للغة المقالة ،ثم هذه ( الفرشة) من الموضوعات الحيّة ( السيّارة )- إذا صحّ الوصف- التي تلاحق متغيرات الحياة في الوطن ، من الحدث السياسي الساخن الذي يتطلّب تحديدا دقيقا للأخطاء والثغرات ،ولابأس بمسحة ساخرة من الغمز حين يكون التعريض أبلغ من التصريح ، ومنه الى التنقيب في جذور أزمات المجتمع العراقي بالغوص الى إشكاليات ما يسمّى بمرحلة النهضة الحديثة وهي مرحلة شائكة بتناقضاتها وصراع الإرادات فيها بين شدّ الهيمنة الاستعمارية وما يواكبها من ترسيخ لضروب التبعيّة ، وبين جذب الارادة الوطنية وتطلّعات النخب والجماعات المحلية المختلفة ، مرورا بموضوعة الدراما العراقية ، وأصداء المكاسب الرياضية في مجتمع محبط سياسياً ،وبالتعريج على اللهجة الشعبية والدلالات الكنائية المتمخّضة عن دوران مصطلحات ذات صلة بالحراك السياسي والاجتماعي ، ومقالات في استذكار سني الجوع والتحدي في عقد الحصار المشؤوم ،ومقالات في رثاء أحبّة غادروا قبل الأوان : رعد عبد القادر ،مؤيد سامي ،أديب أبو نوار---إلخ ، ومقالات لرموز بارزة في اليسارالعالمي ،ومقالات نقدية لروايات ومجاميع قصصية وكتب (1) مثيرة يجد أنّ من حقّ القارئ عليه تقديم قراءات تحليلية لأبعادها من منظور قارئ نوعيّ خبير ،يتحرّك في تحليلها من عناصر النصّ : اللغة والحوار والشخصيات الى ما يتوارى خلفها من محتوىً اجتماعي وسياسي هو الوجه الآخر للعمل الفني ، إذ لا يمكن أن تكون بنية لغوية مغلقة على نفسها ، بل هي منفتحة على الحياة تنهل منها وتصبّ فيها في حركة تركيبية معقّدة متزامنة ومتداخلة وغير نمطية .إنّ مقالاته تمثيل حقيقي للمثقف العضوي الملتحم بعصب الحياة ونبضها المتسارع ،وهي حصيلة خبرة صحفية صقلتها ظروف ملتهبة عاشها الكاتب ،جعلته على المحكّ حيث شرط الحرية المسؤولة هي البوصلة المؤشرة نحو القلم النظيف والموقف الملتزم غير المؤدلج ولا المتحزّب،ولذلك فهو يتحدّث عنها باعتزاز قائلاً : (( إنّ الكلمة الأكثر تداولاً في تلك الآونة إلى جانب السقوط والاحتلال والسلب والنهب ----الحرية وهي ترتعش بفرح على شفاه الانسان ----حرية الرأي والتعبير والمعتقد----الحلم الكبير الذي يسكن عقل وروح وضمير النخبة الثقافية العراقية----هنا وجدتني أخوض تجربة فريدة من نوعها،مثيرة وممتعة وتنطوي على مخاطر شتى ، وخلال سنة ونصف كتبت العشرات والمئات من التحقيقات الصحافية والمقالات والتقارير الخبرية والاعمدة ----وأعترف أنني خلال هذه المدة القصيرة تعلّمت الكثير عن فنون الصحافة والتي انعكست فيما بعد على كتاباتي في المجالات الادبيّة والفكرية----مشواري الصحفي الذي أعدّه بالرغم من محدوديّته مفيداً أو مثمراً )) (2) .ومقالاته مقتصدة في عبارتها تصل الى الفكرة بأقصر الصيغ التعبيرية بلا إنشائية ولا ترهّل ولاطلّسميات ولاتفاصح وغيرها من آفات المقالة في أدبنا المعاصر، ولكنها في الوقت نفسه لاتتنازل عن فنيّة الأداء وشعريّته أحياناً ،وبما يكسبها بصمة خاصة ،يقول في بعض مقالاته : ((تسعينيّات العراق زمان ملتبس صعب ،وحياة فقدت كثيراً من رونقها ومذاقها وأكاد أقول :ومعناها أيضاً ،ونفوس لبست بالرغم منها أردية الوحشة والحيرة ،وأفق ضاعت تباشيره في العتمة والدخان ،فكان الخوف ،وكان الجوع ،وكان موسم الهرب الكبير ، أمّا الذين بقوا فكان عليهم أن يخوضوا اللجّة المضطربة بزاد قليل وعناد روح وأحلام مثلومة وأمل ضئيل ----في هذا الفضاء المعتم والخانق كان هناك من يسعى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لإشعال شمعة بدل لعن الظلام ))(3) . وغالباً ماتستهلّ مقالاته بأسطر قليلة هي مقدمة مقتضبة جداً ينفذ منها الى معالجة الفكرة المحورية، مستعيناً ببعض الآليات الاسلوبية ولاسيما الموازنة ، الموازنة بين الحالات المتناقضة أو المشتركة للكشف عن جدلية الأضداد: نكوصاً وتطوّراً،تشدّداً وتحرّراً ،ضعفاً وقوة -----إلخ ، إنّه &nd
عن غسق الوطن ونهاراته:قراءة فـي تجربة سعد محمد رحيم المقالية
نشر في: 9 مايو, 2010: 05:19 م