لطفية الدليمي
يُعرَفُ عن الروائي الأمريكي المعاصر (ريتشارد باورز) تجربته الفريدة في مضمار الكتابة الروائية ؛ فقد بدأ منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين روائياً مهجوساً بتأثير التقنية في تشكيل العالم عبر موضوعات الذكاء الإصطناعي والأتمتة والسايكولوجيا المعرفية والهندسة الطبية الحيوية والبرمجيات المتطورة ،
وقد ساعدته معرفته بالبرامج الحاسوبية في عمله الروائي بالإضافة إلى خبراته الكثيرة التي إكتسبها من عمله كاتباً مقيماً ثم أستاذاً للكتابة الإبداعية في العديد من الجامعات ، وآخرها جامعة إيلينوي.
آخرُ روايات باورز المنشورة هي روايته (The Overstory ) - نشِرت عام 2018 - ، وهي الرواية الثانية عشرة له ، ويحكي فيها عن تسعة أمريكيين شكّلوا جماعة متآلفة فيما بينهم بسبب تشاركهم في تجاربهم المميزة مع أشجار الغابات الأمريكية ورغبتهم في توصيل رسالة ( شبيهة بنذير النهاية القيامية للإنسانية ) بشأن التدمير المستديم لهذه الأشجار المعمّرة . قد تبدو هذه الرواية مثالاً قياسياً للرواية البيئية التي شاعت في يومنا هذا بعد كارثة التغير المناخي والمخاطر البيئية المتفاقمة ؛ غير أنّ الأمر ليس على هذا النحو أبداً . يحكي باورز في حوارية له بصحيفة الغارديان البريطانية أنّ فكرة هذه الرواية جاءته في أحدى جولات المشي الطويلة في قلب غابات الأشجار الحمراء العملاقة القريبة من محيط جامعة ستانفورد التي كان يعمل أستاذاً فيها ، وقد تملّكته الدهشة لمرأى هذه الأشجار لأولّ مرة في حياته ، ثمّ راح عقله يتفكّر في تلك السلسلة شديدة التعقيد التي تربط حياتنا بحياة تلك الأشجار وكلّ الموجودات الحية في الكون . " كان الأمر أشبه مايكون بانعطافة مفصلية لها قوة المؤثرات الدينية المزلزلة " : هكذا يصف باورز تجربته الروحية مع تلك الأشجار ، وهو الأمر ذاته الذي دفعه لكتابة تلك الرواية التي جاءت إنعطافة كبرى في حياته الروائية .
إنّ ماذكرته أعلاه بشأن الروائي (ريتشارد باورز) هو خصيصة عامة باتت تطبعُ رواية القرن الحادي والعشرين ؛ إذ لم تتخلّ هذه الرواية - ولاأحسبها ستتخلّى يوماً - عن السرديات الكبرى Grand Narratives التي نعرفها (الحب، الموت، الطفولة، الشيخوخة، الأمل والتفاؤل، مواجهة المآزق الكونية، الصداقة،،،،،،) ؛ لكنما تحوّلت المفردات المتناولة نحو كينونات جديدة ، وأصبح السرد الروائي يعتمد مقاربة جديدة في هندسة الرواية ، وعلى هذا الأساس بات ممكناً لِـ (الأشجار الحمراء العملاقة في غابات كاليفورنيا الأمريكية) أن تكون موضع البؤرة الروائية وموضوعاً يُعيد صياغة علاقتنا المتهافتة مع الطبيعة .
إنّ دراسة رواية القرن الحادي والعشرين نشاط مدهش بمثل ما هو فاعلية تبعث على التحدي ، وبخاصة أنّ الرواية المعاصرة في القرن الحادي والعشرين قد صارت لها ظلالها المنعكسة على مجمل الثقافة الشعبية ووسائل الإعلام والهياكل المؤسساتية التعليمية «حيث أصبحت الروايات المعاصرة توضع بصورة مستديمة في المناهج الدراسية للمدارس والجامعات» ، كما أنّ الرواية المعاصرة ماعادت هيكلاً أدبياً يتأثر بالمستجدات التي تحصل في العالم على كلّ الصُعُد بعد فترة طويلة؛ بل صار تأثير هذه المستجدات على الرواية المعاصرة أقرب إلى التأثير المتزامن الذي نشهده منعكساً في الرواية ، وليست الأمثلة على هذه الحقيقة بقليلة؛ فالانعطافات الكبرى الحاصلة في ميدان الثورة الرقمية والذكاء الصناعي والتأثيرات البيئية -على سبيل المثال - باتت تلقى صداها السريع في الأعمال الروائية التي يكتبها عدد من أفضل روائيي العالم.