خالد خضير الصالحي
1
يعرف متابعو مكية الشرمي انها، ومنذ تخرجها، كانت دؤوبة، في بحثها عن جوهر بنية المادة الطينية عبر نمط من الرؤية المجهرية،
بحثا عن: الشكل (الجوهري) للمادة، وأيضا طبيعتها (الجوهرية)، ذلك الجوهر الذي يُطمس تحت سلطة الرؤية السطحية التي لا تميز الفروق الخبيئة، حيث يتشكل الجوهر الكيمياوي من (مثنوي) متظافر: ذرات atomes، وصفائح lamelles، وكأن الطين عندها نمط من النفس في جمعها: اليبوسة واللين، والسخونة والبرودة... وغير ذلك، وكأن مسعاها يأتي في باب توكيد التطابق الغريب والملفت بين: (البنية الجزيئية لعناصر الطبيعة العضوية واللاعضوية) وبين ما تخلفه مكية الشرمي، بعد ان ترفع يدها من القطعة الخزفية من سطوح، ومن تجريدات تنبق من أعماق غائرة في النفس، ولا يمكن استجلاء تفاصيلها.
ان رزوح لاوعي الخزافة تحت فكرة (أوليةِ) الطينِ الذي تسميه عالمة النفس (آنييلا يافي) بـ(المادة الأولية) المكونة للحياة، عبر ايمان الشرمي ان الانسان قد خُلق من (طين لازب)؛ ليتخذ حيوات جديدة وتنوعات عبر الكائنات المختلفة، وداخل الانسان الأشد رقيا بين تلك الكائنات؛ فيتحول التركيب الطيني الاولي الى بناء معقد من: خلايا، وعروق، وكرويات بيضاء وحمراء، وشرايين، وسوائل، وملكة عقلية، وبذلك فان اعمالها هي إعادة لصياغة الخلق من الطين ثانية، فهي ليست مستوحاة من النظر الى الجسد الإنساني عبر العين المجردة، وانما النظر بوسائل التكنولوجيـا؛ وباستعادة لعملية (ميثو/كيمياوية) تجمع الطين (المادة الأولية)، وروحها الساخنة (النار)، التي تُخضع الطين لها؛ ليتحول من تركيبته الطينية (المحايدة)، الى تركيبة خزفية مزججة بفعل النار التي هي اشد عناصر التكوين فاعلية، وقسوة، وهيمنة على عناصر التكوين الانباذوقليسية الأربعة كلها.. وبفعل الطاقة الخلاقة التي استنهضتها الخزافة، وهو ما نعتقده كان الدافع الى اختيار عنوان المعرض: (فن الخزف واللامرئي)، حيث التضايف ما بين: العلمي، والميثو/فني، وما بين: النقطة الأولى للبحث عن جوهر الفن، أي (المادة الأولية) الصرف، في عصيانها على التشكّل، و(الفوضى الشكلية) لتتشكل في النهاية (كتلة مختلطة) لا سبيل الى فصل، او حتى معرفة مكوناتها.
2
لقد كان استراتيج الاقتصاد بالعناصر البصرية، في هذا المعرض، يتم من خلال تداول عدد محدود من المفردات الشكليّة، والمادية؛ فقد كانت الخزافة حريصة على (حماية) خزفياتها من تسلل الزوائد التي لا حاجة للقطعة الخزفية بها، فيغدو العمل (بسيطاً) في كل شيء.
3
ان الازاحة المنظمة للـ(منهجيات) السائدة التي انتجت انساقا راسخة في تقاليد الخزف منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى الان، كانت تمارس نمطا من الـ(عنف)، بمعنى القسر الذي تمارسه الخزافة على عناصر العمل: المادة، واللون، والخطوط، والتصميم، وكأنها تمارس محوا، وهدما، يجري تبنيه باعتباره فعلا دفاعيا يمارس، بل ويتدرع به العمل الخزفي، ويشكل تقويضا منظما ومحسوسا، واختزالا لما تم الإقرار به من قواعد (راسخة)، ويقينيات جمالية.
4
نعتقد ان مكية الشرمي لا تشتغل سطوحها وفق مخططات أوليّة مسبقة، ومقننة، بل تعمل بشكل يأخذ ما تنتجه الصدفة باعتبارها، ذلك لأنها تخشى ان يؤدي التخطيط المسبق الى إطفاء الشعلة التي تملأ العمل توقدا، لذلك ازعم انها كانت تواجه كتلة الطين ببراءة، في كل مرة، وبذلك فهي متحرّرة من المسبقات، واليقينيات كلها، وان ما تلقي به الصدفة، ويلقي به اللاوعي صدفةً، ودونما تخطيط مسبق، ووفق ما يسميه النحات (هانس ارب) بـ(ـقوانين المصادفة)، وهو ما يعطي اعمالها حيوية وقوة، ليس بفعل الـ(موضوعات) التي (تخلفها) انما بفعل شيئية السطوح والاشكال التي تنتجها تلك السطوح فتخلق متاهات تعبيرية مفارقة للمتاهات ذات الشكل الهندسي المفضي الى اللانهاية، لذلك يمكن القول ان مكية الشرمي، تحرص، قدر استطاعتها، على عدم المساس بـ(السمات التعبيرية) الكامنة في مادة الطين، وعلى مسك لحظة الاستثارة العاطفية، ولحظة تشوّشٍ المرئيات، واستعصائها على الإمساك، فلا يتبقى منها الا هذياناتها، وجلبتها التي تستعصي على الشرح، والتبيّن، حيث الخطوط التي لا قانون لحركتها، والمرئيات التي تختلط في لحظة مصادفة، والبقع التي تتناثر هنا، او هناك، دون قانون واضح لها، الا قانون الحدس والاحساس الداخلي.. وبما يحافظ على بقاء (العمل الفني) عندها (واقعةً معيشةً) هي ذاتها ما نسميه (شيئية العمل الفني) العصية على الشرح، وعلى التحول الى لغة.
5
ان سعي مكية الشرمي الى الإبقاء على (الروح الخام) للطين، هو ذاته ما اسميته مرة في مقال لي عن النحت العراقي بـ(روح المادة الأولى)، وهي روح الطين او تعبيريته الكامنة بعد ان تتخذ المنحوتة طبيعة أخرى كالبرونز مثلا، بينما يتخذ الطين هنا، بعد معالجته، طبيعة الخزف، ودون ان تبعده تحولاته عن روحه الأولى قبل ان يصير جلمودا قاسيا..
6
نحن نستعير تعريفنا للـ(ـشيء) وللـ(شيئية)، هنا، من تعريف هيدجر: أولا، (الشيء) جوهر يحمل الصفات المميزة له، وثانيا، (الشيء) هو ما يدرك بالحواس، وثالثا، (الشيء) مادة تشكلت من خلال الصورة، أي انه (المادة المتشكلة) التي تحمل (صورة معينة) وان ما يخلع على (الشيء) صلابته، وكثافته، وتماسكه إنما هو (ماديته)، واستنادا لذلك نجد ان الشرمي استطاعت ان تطوع المادة (بالمعنى الواسع للمادة): الطين، واللون، والاكاسيد المضافة، والتأثيرات التقنية، وغيرها، لتتخلف منها صورة بصرية تعبر عن الألم وتشجبه، دونما تدخلات لغوية، وبدرجة الصفر السردية، وبما يحافظ على (مشدات) العمل الفني متوترة دائما، ونحن نعي دلالات استخدامنا لتعبير (المشدات) للإيحاء بالمشدات الداخلية التي تستخدمها النساء لتحافظ على تناسق شكل الجسد الأنثوي.
7
ان سر نجاح الشرمي كان في تمكنها من تحويل الموضوع إلى: علاقات (شكـ/ـلـ/ـونـ)ـية جمالية، فلم يعد الموضوع سردا نثريا قابلا للتحول إلى لغة حكائية..
8
ان القول بأن هذا المعرض معرض للخزف، امر من الصعب انكاره، ولكن اجناسيته ليست نقية الى درجة قارة، فقد كانت (الخزافة) الشرمي تعمل مادتها وكأنها اعمال نحتية مادتها الطين المفخور، وتعامل سطوحها وكأنها لوحات رسم مادتها أكاسيد التزجيج، أي انها لوحات بالوان اكاسيد التزجيج!، كل تلك الأنماط الاجناسية تتحقق ولكن بشرط ان يفرض الخزف قانونه الأكبر: التحرر من كل رغبة بالتقليد..
انه اذن معرض عابر للاجناسيات التقليدية..