ستار كاووش
(أنا الكاتب والطبيب النفسي كَيس لابان، أَودُّ رؤيتك لأمر مهم، إن سمح وقتك بذلك) هكذا قَدَّمَ نفسه من خلال الهاتف. إنتظرته في المرسم ليحضر بقامته المديدة ولحيته ونظاراته التي تحجب عينين هادئتين، ويعلو وجهه إبتسامة مريحة.
لقد أعادتني هيئته للعلماء، قبل أن أكتشف أنه عالم بالفعل. تحدثنا عن أشياء كثيرة في المرسم، ليسألني ان كانت عندي رغبة للتجول في الخارج بين الحدائق التي تحيط بالمرسم، وهكذا خرجنا معاً ونحن نتحدث، وهو يسألني مرة عن الموسيقى المفضلة لديَّ وأخرى عن نوعية الكتب التي أقرأها، ليحكي لي بعدها عن ولعه بأغاني البيتلز ويستعيد بعض الذكريات الجميلة حولها، حتى قال لي في النهاية (شاهدت لوحتين من لوحاتك عند السيدة أليس دي بور) فقلت له (نعم، لقد درستني السيدة دي بور اللغة الهولندية وساعدتني كثيراً في هذا المجال، كذلك إقتنت لوحتين من أحد معارضي) وهنا إرتفعت نبرة صوته قليلاً وهو يقول مبتسماً (وهذا هو الخيط الأحمر للحكاية) وهذه الجملة يطلقها الهولنديون عند الإشارة الى جوهر الموضوع أو (رباط السالفة)، ليكمل حديثه (لقد انتهيت من تأليف كتاب جديد حول الحالة النفسية عند الهولنديين ومقارنتها مع الحالة النفسية لفئة من الأجانب الذين يعيشون في هولندا)، توقف قليلاً، ليكمل حديثه (وقد اخترت العراقيين لهذا البحث لذا أرجو أن توافق علـى اختيار واحدة من لوحاتك التي رسمتها في هولندا كغلاف للكتاب، وتكتب لي شيئاً عنها وعن ظروف رسمها، ان كانت لديك الرغبة والوقت). عدنا الى المرسم من جديد، ليقع بصره على لوحة (وداع الصيف) فأشار اليها قائلاً (أتمنى انك تستطيع أن تقول شيئاً عن هذه اللوحة). فتحدثت له كيف كانت وحدتي باردة، وأن الصيف في اللوحة يشير الى بغداد التي تركتها خلفي حيث أصدقائي وأهلي ومعارضي وذكرياتي وكل ما أحببت.
طُبِعَ الكتاب بشكل جميل، وقد أهداني نسخة منه، بعد ان دفع لي الناشر ثمن استخدام لوحتي، ليصلني بعد بضعة أيام اتصال من سيدة قالت لي بتردد (أنا كريستينا، زوجة كيس لابان، واريد ان ان اتفق معك على لقاء، لكن أرجو ان يبقى ذلك سراً بيننا، وسأخبرك بالتفاصيل في المرسم. في اليوم التالي جاءَت كريستينا الى المرسم، وهي أمرأة تعيدني مشيتها وطريقة حملها لحقيبتها وجلوسها وكلامها وحتى إمساكها بفنجان القهوة، لنساء العائلات البرجوازية في القرن التاسع عشر. وبعد أول رشفة من قهوتها، قالت لي (لا تستغرب من الطريقة التي اتصلت بها، ففي الاسبوع القادم عيد ميلاد كَيس، وأود شراء اللوحة التي اختارها لغلاف كتابه الأخير، لأقدمها له هدية) احتست رشفة أخرى من القهوة لتكمل (لقد أُعجِبَ كيس بأعمالك بشدة، وهو يحدثني كل يوم عن ذلك، وقد امتدَّ حديثه الى العيادة، حيث أخبر زملاءه عن عالمك الذي صنعته بألوانك وخطوطك، والافكار التي تنبعِ من رؤيتك كفنان) اسعدني حديثها كثيراً، وإتفقنا على شرائها اللوحة ذات الحجم الكبير، فحملتها في سيارتها البيضاء قبل ان تقول لي (ارجو ان لا تخبر كيس أو أي شخص آخر بهذا الموضوع قبل أسبوع من الآن) أشرت لها مبتسماً بالموافقة، لتنطلق بسيارتها بعد ان أومأت بأصابعها قرب النافذة للتحية.
في اليوم التالي رن جرس التلفون، وكانت على الجانب الآخر من الخط امرأة فاجأتني بقولها (صباح الخير، أنا زميلة كيس لابان في العيادة، وأودُّ ان اقتني لوحة صغيرة لأقدمها له في عيد ميلاده الأسبوع القادم، هل لديك لوحات صغيرة؟ ان وافقت على ذلك ارجو ان يبقى الموضوع سراً بيننا) سمعتُ كلماتها وأنا لا افهم ما يجري بالضبط! وافقت بالتأكيد على مجيئها ولم اخبرها بأن كريستينا جاءت البارحة واشترت لوحة لذات الغرض، لأني وعدتها ان يكون ذلك سراً بيننا. جاءت المرأة الشابة وإختارت لوحة صغيرة وهي سعيدة بانتظار عيد الميلاد.
مَرَّت الأيام، وبينما كنت أهيئ مع بعض الاصدقاء أمسية جميلة بجزء من ثمن اللوحتين اللتين سيحصل عليهما كيس في عيد ميلاده، رنَّ جرس التلفون، ليصلني صوت كيس الذي تخيلته يداعب لحيته مبتسماً (لقد وصلتني وداع الصيف وستحصل على مكان لائق في البيت، أما اللوحة الصغيرة فسأعلقها في العيادة، وبهذا ستكون اعمالك معي طوال الوقت، اعتز بذلك ياستار، سنرفع نخبك الليلة). شكرته وأنا أرفع كأسي لتهنئته بعيد ميلاده، لأعود لأصدقائي المنشغلين بتحضير المائدة.